يُعد بول ريكور من أبرز فلاسفة فرنسا المعاصرين، ذاع صيته على المستوى العالمي بفضل ترجمة أعماله إلى معظم اللغات الحية. ولد سنة 1913 ، من عائلة بورتستانتية، بفالونس (Valence) الفرنسية، عزز معارفه بفلسفة هوسيرل وعكف على ترجمة أجزاء منها، إبان تجربته السجنية التي دامت أربع سنوات إبان الاجتياح الألماني للأراضي الفرنسية من سنة 1940 إلى 1945.
حصل عام 1950 على الدكتوراه في أطروحة عن ترجمته لكتاب الأفكار لهوسيرل(أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهرياتية)، وفي نفس السنة ناقش أطروحة أخرى حول “فينومينولوجيا الإرادة”، التي قام بنشرها بعنوان “فلسفة الإرادة، الإرادي واللاإرادي” التي تشكل الجزء الأول من مؤلفه “فلسفة الإرادة”. ست سنوات بعد ذلك، دخل سلك الأساتذة بالسوربون، وفي عام 1966 انتقل إلى التدريس في جامعة نونتير التي ساهم في تأسيسها وعين عميدا لها سنة 1969 قبل مغادرتها بعد سنة واحدة فقط نتيجة الحملة العدائية التي تعرض لها من خصومه الأيديولوجيين، غادر في فترة لاحقة فرنسا لامتهان التدريس في عدد من الجامعات الأوربية والأمريكية، وأغنى المكتبات الدولية بإصدارات خلدت اسمه في مجرى الدراسات الفلسفية عبر العالم، قبل أن يرحل عن الوجود سنة 2005، كان من أهمها كتبه: “الذات عينها كآخر”، “الزمن والسرد”، “الاستعارة الحية”، “سطوة الاستعارة”، “من النص إلى الفعل”، “الزمن والسرد”، “رمزية الشر”، “التناهي والإثم”، “صراع التأويلات”، “الإنسان الخطاء”، “فرويد والفلسفة“…
يرى سعيد الغانمي، في مقدمة ترجمته لكتاب ريكور “الوجود والزمان والسرد”، أن جاذبية فلسفته تكمن في كونها “تنطوي على مشروعين متناقضين، تريد مؤاخاتهما والتوفيق بينهما، فمن جهة هناك أنثروبولوجيا فلسفية تسعى لتحقيق فلسفة في الإرادة، وتستثمر الظاهراتية والأنطولوجية والوجودية (…) ومن جهة أخرى، هناك تأويلية نقدية تريد الاستفادة من آخر ما توصلت إليه علوم اللغة ونظريات الاتصال”. فمنحاه الفلسفي يتميز بالجمع بين “الفينومينولوجيا الوصفية والتأويل الهرمنيوطيقي”، لذلك يقول عنه عدنان نجيب الدين، في مقدمة ترجمته لكتابه “فلسفة الإرادة الإنسان والخطأ”، إنه تمكن من قيادة “الحوار المثلث” conversation triangulaire “الذي بدأ منذ مدة طويلة بين الفكر التأملي الفرنسي، والفلسفة الألمانية (خاصة تأويلية “غادامير” Gadamer وأنطولوجية “هيدجير” Heidegger) والفلسفة التحليلية الأنكلو-سكسونية“.
الشر عند ريكور
يبحث بول ريكور عبر مباحث كتابه “الإنسان الخطاء” – حسب الدكتور جورج زيناني الذي قدم نظرة بانورامية حول إنتاجه الفكري من خلال تعليقاته على عمله المعنون ب”الذات عينها كآخر”- عن نوع من أنطولوجيا الإنسان أو عن جوهره في وجوده، أي يبحث “عن الأمر الذي يجعله قابلا للوقوع ليس في الخطأ فحسب ولكن في الخطيئة، أي في ارتكاب الإثم”؛ حيث يجد ذلك “في عدم تناسب في بنية الإنسان نفسه”، أي في غياب “تناغم وجودي بين ما يطمح إليه الإنسان وما هو واقع إمكاناته”. لأن “الإنسان أنثروبولوجيا هو تمزق صعب بين لا متناه يفتح الآفاق بلا حدود، وبين متناه يدخل منه الشر إلى البنية الوجودية للإنسان، فيعيش الإنسان هشاشة هذا الوضع المؤثر شبه المأساوي على الصعيد العملي والعاطفي“.
فالأمر يتعلق ب”فقر أنطولوجي” على مستوى بنية نفسية الإنسان، فهو فقر “يتمثل في محدودية كل إمكانية بشرية”. ويضيف أن “هذا الديالكتيك بين هذين الأمرين يجعل اللاتناسب الوجودي أمرا يعيشه الإنسان كهشاشة مستمرة تجعل الانتقال من إمكانية الوقوع في الشر إلى اقتراف الشر ممكنة في كل لحظة، عند كل إنسان”. وكحل لهذا الواقع، يقترح ريكور حلا كانطيا، حيث إن الفارق بين طموح الإنسان إلى سعادة لا متناهية وواقع طبعه المتناهي يبين عن وجود لا تناسب بنيوي، هذا اللاتناسب تحوله فكرة كانط المتعلقة ب”احترام الشخص الإنساني كغاية” إلى “توازن بين الجزئي والكلي“.
الرمز وإزالة الأسطرة
وأشار عمر مهيبل، في تقديم ترجمته لكتاب “بعد طول تأمل السيرة الذاتية”، إلى اهتمام ريكور المبكر “بإلباس مفهوم التأويل لبوسا جمالية ولغوية بالغة الدلالة، إذ يعتقد أن مجال هذا الأخير، أي التأويل، هو مجال الفكر الرمزي المنفتح على كل الآفاق والحدود، المنهمم باستجلاء المعاني الباطنة من ثنايا التجربة المعيشة اجتماعيا وتاريخيا“.
وأضاف، نفس الكاتب، أن علاقة الرمز بالتأويل في فكر ريكور هي “علاقة جنينية ترتسم حولها وبها معالم الحقل الإبستيمولوجي المؤسس للهرمينوطيقا”، لأن الرمز عند ريكور يفيد “إمكانية المزاوجة بين تأويلات عدة، بل إن ما يؤسس للرمز، بما هو معطى منهجي وإجرائي لا غنى عنه داخل المنظومة التأويلية، هو أنه لا يمكنه أن يحمل معنى واحدا أو دلالة واحدة، وهنا مكمن المفارقة”. ففي صراع التأويلات –يؤكد مهيبل– “أفاض ريكور في كل ما يحيل إلى الرمزية من حيث هي مرتع خصب لتعدد المعاني والدلالات، وقيمة فلسفية وإنسانية تبدأ من اللغة –إذ إن المعنى ذاته يتجلى في اللغة وباللغة- لتتجاوزها في النهاية إلى نوع من التجريد الميتا – لغوي الذي يجعل من البحث في منحوتاته الاشتقاقية الداخلية مجال انهمامه الأساس“.
ويوضح حسام الدين درويش أن إزالة الأسطرة عند ريكور لا تعني “إجلاء أو استبعاد الأساطير، وإنما تشير إلى عملية رفض الأسطورة، بوصفها تفسيراً (الأسطورة-التفسير le mythe-explication)، من أجل تحريرها، بوصفها رمزاً (الأسطورة-الرمز le mythe-symbole)”. فريكور –حسب نفس الباحث- سعى من خلال إدخال عبارة “الرمز يعطي للتفكير”، في بداية كتابه رمزية الشر، إلى توضيح وتحديد “ما الذي يعطيه الرمز للتفكير، وكيف يمكن بلوغ وتحقيق هذا التفكير انطلاقاً من الرمز؛ ورأى أنَّ الرمز يثير دائماً فهماً لا يتحقق إلا بطريقة تأويلية. وإنَّ تحقيق هذا الفهم يمر عبر ثلاث مراحل متتالية: مرحلة فينومينولوجية، مرحلة هيرمينوطيقية، مرحلة تفكُّرية أو فلسفية“.
من الفينومولوجيا إلى الهرمنيوطيقا
فالوظيفة التأويلية للرمز عند ريكور، باعتباره آلية لإزالة الأسطرة، حملته على الانتقال إلى منهجية الهرمينوطيقا، باعتبارها –حسب تعبير زيناني- “محاولة فك شفيرة الرموز التي تحملها الأساطير”، مثل القذارة والنجاسة والخطيئة والإثم، ثم العروج على “أساطير” البداية والنهاية ونفي النفس داخل الجسد”، كل هذا من أجل “دراسة كل الأساطير حول وقوع الإنسان في الشر وبداية خطاب المقدس”. ومن هنا فإن ريكور سجل خروجه من الفينومينولوجيا، بل من “الفكر الفلسفي العقلاني، لأن الفلسفة بالنسبة إليه عليها أن تحاول فهم كل شيء حتى الدين نفسه، فالفلسفة لا تستطيع أن تقول هنا يتوقف الخطاب العقلاني المترابط، وهنا يبدأ الخطاب الأسطوري“.
لقد انتقل إلى الهرمينوطيقا التي أبانت عن محدوديتها، حتى قادت “هوسرل إلى نوع من المثالية المفرطة، وإلى أنانوية هي بمثابة علم للأنا (égologie)”، مما استدعى تطعيمها بمنهجية جديدة، هي المنهجية الهرمينوطيقية أو التأويلية “التي تستطيع وحدها أن تصغي إلى كل عالم الرموز والإشارات والنصوص والتراث والتحليل”. فالفلسفة التأويلية “كانت قد اكتسبت استقلاليتها مع شلاير ماخر، ولم تعد مجرد تفسير للنصوص الدينية أو الكتب القديمة، بل أصبحت منهجية عامة تطبق على كل التراث الإنساني من أجل فهمه، وقد شددت هذه المدرسة المزدهرة في العصر الرومنطيقي على محاولة فهم نفسية المبدع وظروفه وقت إبداعه؛ أي إنها شاءت أن تغوص إلى فهم المبدع أكثر مما كان هو يفهم نفسه“.
فالتأويلية قبل ريكور، يقول سعيد الغانمي في تقديمه لترجمة كتاب ريكور “الزمان والسرد – الزمان السردي”، كانت “مشغولة بالانكباب على النصوص، تحفر في أعماقها محاولة التوصل إلى حقيقة خفية تكمن في أحشائها، أو تكتفي بتقليب ظاهر النصوص ووجوهها محاولة التوصل إلى “البنية” الجامعة التي تغديها”. أما ريكور، فشرع بالدخول خلال سبعينيات القرن الماضي في حوار مع التأويلية المتعالية على الذات، أي البنيوية، وهو الخارج من تأويلية الذات المعتكفة على ذاتها، غير أنه أن ريكور رراكتشف، بمرور الوقت، “أنه يغير كلتا التأويليتين معا، وفي الوقت نفسه يعيد النظر في مهمة الأنطولوجيا بأسرها“.