حاوره: عبد المجيد مجيدي
رأى الباحث محمد قنفوذي، أن أحاديث الفتن حاضرة بقوة في تصور تنظيمات الإسلام الحركي بمختلف مشاربه وتلويناته التربوية والسياسية والجهادية، حيث تتولى هذه الأحاديث توجيه مسار التيار الديني لخدمة أهدافه الآنية والمستقبلية، وتسهيل عملية التعبئة والاستقطاب.
وأبرز الباحث المتخصص في الشؤون الدينية والمغاربية في حوار مع “ذوات”، أن المشاريع المجتمعية المنبثقة عن أحاديث الفتن، تكاد تنعدم، باعتبارها أخباراً نبوية تتماشى مع الرؤية الدينية في الحفاظ على “رباط الجماعة” إيمانياً وروحياً، دون أن يكون لها تأثير على المجالات الأخرى، مضيفاً أن أحاديث الفتن ارتبطت بالتحولات الجيوسياسية والاجتماعية والنزاعات التي توالت عبر التاريخ الإسلامي.
ودعا محمد قنفوذي إلى تجاوز الطرح العاطفي والوجداني لتلك الأحاديث، لمحاولة دغدغة عواطف الناس من أجل عمليات التعبئة والاستقطاب، ملحاً على ضرورة التفكير في إعادة صياغة أحاديث الفتن والملاحم في قالبها الوسطي المعتدل، وتحديدها في إطارها الفقهي مع تمثل حقيقة المشترك الإنساني، حتى لا تستغل هذه النصوص في معاداة الشعوب، وتهديد أمنها واستقرارها.
والكاتب محمد قنفوذي هو من المتخصصين الشباب في الشؤون الدينية والمغاربية، وباحث في وحدة الدراسات المغاربية بمركز الدراسات والبحوث الكائن في مدينة وجدة بالمملكة المغربية. له عدة مقالات ووجهات نظر نشرت في عدة جرائد ومواقع مغاربية وعربية.
*في زحفه نحو الحكم وتولي زمام التدبير السياسي، يعتمد الإسلام الحركي بمختلف تشكيلاته التنظيمية على تحويل الإرادة الفردية لأعضاء مجموعة الارتباط الأيديولوجي إلى قوة جماعية للاقتحام المجتمعي. في نظرك، كيف يتم تأصيل هذا الزحف فقهيا وصياغة مرتكزاته التراثية كأحاديث الفتن مثلا لشرعنة التحرك نحو مراكز النفوذ السياسي والاجتماعي والاقتصادي داخل – ما يسمى في تلك الأدبيات – بمجتمع الفتنة/الجاهلية؟
عند العودة إلى المرجعيات الدينية التي تبني أسس وقواعد الإسلام الحركي، وتصقل معارفها الدينية والفكرية والسلوكية، بمختلف مشاربها وتمظهراتها السياسية والتربوية والجهادية، نجد أن أحاديث الفتن والملاحم حاضرة بقوة في تصوراتها الأيديولوجية، بما يخدم أهدافها الآنية والمستقبلية، فضلاً عن تقعيدها إبستيمولوجيا وفقهياً، بما يوافق أطروحاتها،
من أمثلة أحاديث الفتن المنتشرة، أحاديث عن عودة الخلافة، وظهور المهدي وخروج الدجال، وحروب آخر الزمان وافتراق الأمة
وتبسيط معانيها وأفكارها، لتسهل عملية استقطاب الأعضاء والمتعاطفين، مقدمة نفسها كمشروع أجوبة عن التحديات الكبرى التي تواجه الأمة، ومساهمة في عمليات الإصلاح المجتمعي وفق الرؤية الإسلامية.
إلا أن الملاحظ لديها، هو الهوة الحاصلة في عمليات تفسير وإسقاط الأحاديث، هذه الأخيرة التي تحدد نوع حركية التيار، بما فُهم من عمليات التأويل، فتفرعت عنها اتجاهات مختلفة، منها من اختار التوجه الدعوي والعلمي والتربوي، ومنها من تخندق في العمل السياسي والحزبي، وأكثرها تطرفاً من أخذ المبادرة المسلحة، باختيار المسلك “الجهادي”، فحمل السلاح واستولى على الأراضي وأحدث الفتن، رغبة في قيام دولة الإسلام، استعداداً لقدوم “الخلافة“!.
ومن الأمثلة عن أحاديث الفتن المنتشرة، أحاديث عن عودة الخلافة، وظهور المهدي وخروج الدجال، وحروب آخر الزمان وافتراق الأمة، فضلاً عن الظواهر الاجتماعية والأحداث السياسية والمتغيرات الطبيعية التي تشبه خوارق العادات، كطلوع الشمس من المغرب والدابة التي تكلم الناس. فمثل هذه الأحاديث وغيرها كثيرة في أدبياتها، تحذيراً منهم لما تعيشه الأمة الآن، ونذيرا لما هو قادم للعالم العربي والإسلامي، ومحاولة لطرح بدائل تربوية وسياسية تقود الأمة – حسب اعتقادهم – لما هو أفضل في دينهم ودنياهم.
كما أن المتعلقات المجتمعية في القضايا الأخلاقية خاصة، تكاد تكون أكثر ما يتداول في الخطب والمحاضرات والجلسات، فتقدم تلك الحركات نفسها محصنا لدين المسلم وأهله، من غمار الفتن والملذات والشهوات، داخل مجتمع فتنوي/جاهلي، أهمل الدين لصالح الدنيا،
تنعكس هذه الاحاديث اجتماعيا وأمنيا، بشكل خطير على المجتمعات والدول، نتيجة الشحن والتأثير التي تحدثه في نفوس الكثيرين
وغلب الفساد عن صلاح الأمة وقيمها، وفي سبيل ذلك، تستدعى كثير من الأحاديث، كحديث (القابض على دينه كالقابض على الجمر) وأحاديث أخرى عن انتشار مظاهر الفساد وانعدام الأخلاق وغيرها، لتقعيد الأطروحة الأخلاقية، عبر طرح البديل التنظيمي للجماعة المؤمنة، بعد أن “غابت عن الأمة” بفعل “تغييب هويتها وطمس ذاكرتها” حسبهم.
ويأتي استرجاع هذا النوع من الأحاديث، في محاولة إثبات الحق واتباع الطريق القويم، وادعاء النجاة دون باقي الفرق والمذاهب والجماعات، وإظهار التشبث بالكتاب والسنة، وإنكارها على المخالفين، اتباعا لأحاديث الفرقة التي ستصيب الأمة بعد وفاة الرسول الكريم. وقد ظهر هذا النوع من الفرق المدعية للحق ابتداء في صدر الإسلام، واستمر الجدل حوله إلى يومنا هذا، مع بروز مزيد من الحركات والجماعات والتيارات الدينية، في مختلف المذاهب والفرق الإسلامية.
ومن هذا المنطلق، تسعى تلك التنظيمات إلى محاولة التأصيل الفقهي والديني لأحاديث الفتن، بتقديم التبريرات الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، لشرعنة “الزحف” الاجتماعي والسياسي والعسكري، فضلاً عن تركيزها على أحاديث فتن آخر الزمان، خاصة ما هو مرتبط بتسميات دول ومناطق بعينها، حددت أسماءها من الأحاديث النبوية، “كفتنة الشام” و”حصار العراق”، ثم عن وصف أقوام وجماعات كأحاديث “أصحاب الدولة” وغيرها، والتي يتم إسقاطها على زماننا، مع صعوبة إيجاد ضابط فقهي لها، وبالتالي فإن استخداماتها غالبا ما تكون عشوائية، بمحاولة لقراءة الواقع وأحداثه، وربط ذلك بمتون الأحاديث ومضمونها.
والحاصل أن استخدامات هذه الأحاديث، وإن كان ينظر إليها من قبل الكثيرين، على أنها فرصة لتذكير الناس بأمور دينها، وصدق أحاديث النبي الكريم بما أخبر به. إلا أن انعكاساتها الاجتماعية والأمنية، هي أخطر على المجتمعات والدول، نتيجة الشحن والتأثير التي تحدثه في نفوس الكثيرين، والذين يخدعون في آخر المطاف بأفكار الجماعات المتطرفة، التي تستغل ذلك في مزيد من الاستقطاب التنظيمي والفكري، لمشاريعها الإرهابية، مما يؤدي أخيراً إلى مزيد من العنف وانتشار الفوضى.
*ينتقد المهتمون بأحاديث الفتن كونها لا تقدم تقعيداً للتداول السلمي للسلطة، ولا تقترح حلولا للمسألة الاجتماعية أو للمشاكل الاقتصادية، إذن لماذا يتم اللجوء إليها؟ وما هي ملابسات هذا الاستدعاء الغيبي في العمل السياسي والحربي؟
أعتقد أن محاولة استحضار المشاريع المجتمعية المنبثقة عن أحاديث الفتن، والمشكلة لوعي كثير من التيارات الدينية، يكاد ينعدم في مضمونها طرح بدائل حقيقية تمكن الأمة من تجاوز مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية، وفي غالب الأحيان، تنقسم تلك الحلول بين أنموذجين:
الأول: يكرس الفهم التقليدي للنصوص الدينية دون استحضار للمتغيرات الحاصلة، فتكون حلوله مستحيلة التطبيق، خاصة في ظل عالم تتميز فيه العلاقات الدولية برابطة اقتصادية قوية، تجعل كل متخلف عنها في مصاف الدول الضعيفة والمهمشة.
الثاني: متماهي بشكل كبير مع باقي الأطروحات الاجتماعية والاقتصادية عالميا، دون أي تميز في الطرح. مما يؤكد أن عملية استدعاء هذا النوع من الأحاديث في خلق التيارات الإسلامية واستجلاب المتعاطفين، يتماشى مع الرؤية الدينية في الحفاظ على “رباط الجماعة” إيمانياً وروحياً، دون أن يكون له التأثير على المجلات الأخرى.
أما ما يخص التنظيمات المتطرفة، فأنموذجها في التعاطي مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، انطلاقا مما كانت تنظر له أيديولوجيا بالأحاديث المرتبطة بفتن آخر الزمان والملاحم، قد برز بشكل جلي في أفغانستان بداية، ثم في العراق وسوريا وليبيا حاليا، حيث إن الأراضي التي يسيطرون عليها، إضافة إلى انهيار بنيتها الأمنية، فهي تعيش تفككاً وتمزقاً اجتماعيين، وغياباً لأي مؤشرات اقتصادية إيجابية، بل هي أراضي مصنفة ضمن أكثر الدول تخلفا، ناهيك عن انعدام مختلف الخدمات الاجتماعية والصحية فيها.
فيبدو إذن، أن هذا النوع من الأحاديث في مرجعياتها، باعتبارها أحاديث إخبارية، لا ينظر إليها كحلول خلاصية نهائية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، أكثر ما هو “تشبث بالكتاب والسنة” في فهم وتفسير مآلات الأمة ووضعها؛
إن استحضار هذا النوع من الأحاديث، يتجاوز البحث عن الحلول الاجتماعية وتجاوز مظاهر “القهر والظلم”، بل يغيب عنه أي مشروع مجتمعي يمكّن “الأمة” كمرادف إسلامي
فالحالة المتردية والضعف والوهن وتكالب الأعداء وحروب الفتنة، الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي حسبها، هو نتيجة لما حذرت منه تلك الأحاديث في آخر الزمان.
وبالتالي، فإنها تعمد لاستحضارها بما يُمّكن من تجاوز المخالفات الشرعية المشخصة فيها، وذلك عبر العمل بوصاياها وتحكيم الشريعة والالتزام بتعاليم الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يعود – حسب ظنهم – للأمة مجدها وعزها، وتحصن جماعة المؤمنين الناجية، عن باقي فرق الضلال والنار!.
إضافة إلى ذلك، فهذه الأحاديث تُستَغل أيضا لتعمل على الحشد والتعبئة والاستعداد، من خلال الكتب والندوات والمحاضرات، للشيوخ من الزعامات الدينية اليوم، خاصة التنظيمات الدينية، التي تؤكد وصول الأمة لمرحلة “آخر الزمان”، وتحقق أحاديث الفتن والملاحم التي أخبر عنها الرسول الكريم، خاصة ما يتعلق بالشام والعراق، فانتشرت بعد ذلك فتاوى الجهاد والقتال، وأسقطت الأحداث والمتغيرات السياسة والعسكرية على الأحاديث النبوية، حتى باتت ظاهرة الإرهاب والتطرف أكثر التحديات التي تواجه العالم بأسره، واكتوت من نارها الدول العربية والإسلامية، حتى انتشرت فيها الفوضى وانعدم الأمن والاستقرار.
*تم الإقبال على أحاديث الفتن في مراحل عديدة من التاريخ الإسلامي، لتفسير مجريات الأحداث وتصنيف الفاعلين فيها إلى أهل حق وأهل باطل. وعلى ضوء تلك الأزمات السياسية المتولدة عن تجاذبات وتنافرات معينة، نشأت مدارس كلامية وفقهية لا زالت تحكم لحد الآن، بمناهجها وموضوعاتها في العالم العربي-الإسلامي. إلى أي حد يمكن أن نقبل بالتوجه القائل إن الواقع الأرضي ومنطق الساحة آنذاك هو من وضع تلك الأحاديث ونسبها إلى مقام النبوة؟
لا بد لنا عند طرح هذه القضية، أن ندرك بوجود اتجاهين في الموضوع، حاول كل منهما التأصيل لمسألة وضع الأحاديث، وذلك حسب المتغيرات السياسية والدينية التي عرفها التاريخ الإسلامي؛ فمن الضروري الوقوف عند كليهما، حتى نستنتج الأقرب إلى الموضوعية في تناول هذا الطرح، ونخلص إلى الغاية منها، سواء أكانت مرتبطة بالوضع بشكل مباشر، أم تحددت لها غاية أخرى.
ويتغلب الأول بفكرة مطلقة، أساسها، أن أغلب هذا النوع من الأحاديث مكذوبة على رسول الله، خصوصا عند التأمل في التاريخ الإسلامي، وملاحظة طبيعة التحولات التي طرأت على المجتمعات الإسلامية، نتيجة غياب القيادة الدينية الراشدة الموحدة التي كانت على زمن رسول الله والخلفاء من بعده، وأيضا بفعل الخلافات السياسية والدينية، التي أدت إلى نشأة الفرق والطوائف والمذاهب، فكثر التأويل والتفسير في الدين، حتى برزت اتجاهات دينية مختلفة في الرأي والكلام؛ فكان لا بد لكل طرف أن يثبت بالدليل الشرعي صحة منهجه الديني، فظهر الوضع والكذب في الأحاديث لنصرة طائفة أو مذهب.
أما الثاني، فهو يطرح من الموروث الديني، ما هو مُحَكَم من انتشار المتشابه، فيعترف بداية بالظروف التاريخية التي ساعدت على انتشار هذا النوع من الأحاديث، بعد بروز الفرق والمذاهب، فسهل على الناس الكذب على مقام النبوة، ترغيباً في طائفة وترهيباً من أخرى، والأمثلة في ذلك كثيرة، ولعل أبرزها ما وضعه متعصّبة الأحناف في ذم الشافعي ونصرة أبي حنيفة، جاء نصّـه في كتاب الفوائد المجموعة للشوكاني كالتالي: (يكون في أمتي رجل يُقال له محمد بن إدريس أشد على الناس من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة، وهو سراج أمتي)، وفي المقابل لا يدعي الأطلقية في كذب كل أحاديث الفتن، على اعتبار ورود كثير منها في كتب الصحاح، فضلاً عن موافقة عدد منها آيات القرآن الكريم.
ومن خلال هذا الطرح الأخير، يتضح لنا عدم إمكانية التماهي مع الرأي الأول في إطلاقيته، فالمسألة تتجاوز الوضع لارتباطها بإسقاط الأحاديث حسب ما يستجد من تحولات جيوسياسية واجتماعية في الأمة، خصوصا عند الأجيال الأولى من صدر الإسلام. فانتهاء النبوة واختلاف الصحابة والتابعين في ما بعدها، أحدث الكثير من النزاعات السياسية والدينية، ابتداء من مرحلة الخليفة عثمان بن عفان، حيث بدأت تتحقق الأحاديث الإخبارية المتعلقة بالفتن، واشتدت ذروتها مع خلافة علي بن أبي طالب عند حرب الجمل وصفين، وظهور الخوارج وحرب النهراوين.
واستمرت عملية إسقاط الأحاديث إلى عصرنا الحالي، مروراً بكل العصور ومراحل تشكل التاريخ الإسلامي، فتجاوزت بشكل غالب الوضع في الحديث، إلى محاولة ربط الأحداث بالموروثات الدينية، وإعطائها تفسيرات وتأويلات لشرعنة قيام حركات “دينية إصلاحية”، أو بروز طوائف ومذاهب عقدية وفقهية.
*يرى البعض أن أحاديث الفتن هي أنموذج تغييري لإعادة إنتاج معاني تدافعية تتوسل بالدين، لطرح مشروع الخلاص من القهر والظلم والآلام الاجتماعية، غايتها الحشد والتعبئة داخل جماعة الارتباط العضوي لخلق نوع من التحيزات العاطفة والطاقة النفسية الجماعية لمواجهة الآخر/العدو. في هذا الصدد، كيف يمكن تجاوز هذه المحنة التنظيرية لموقعة أحاديث الفتن في إطارها الخاص، ثم تسييجها بالضوابط الفقهية والتعاقدية التي تحفظها من الانزياح المتطرف والاستغلال المشوه؟
أشرت سابقاً، إلى أن استحضار هذا النوع من الأحاديث، يتجاوز البحث عن الحلول الاجتماعية وتجاوز مظاهر “القهر والظلم”، بل يغيب عنه أي مشروع مجتمعي يمكن “الأمة” كمرادف إسلامي، أن تنتقل بوعيها وقوتها إلى مصاف التقدم والازدهار، بل هو طرح عاطفي وجداني يحاول دغدغة عواطف الناس من أجل عمليات التعبئة والاستقطاب، من خلال الشحن المعرفي، والدخول في مواجهات مع الآخر المختلف، سواء أكان الخلاف عقديا أو فكريا. وبالتالي استنزاف طاقات المجتمعات العربية والإسلامية، والإبقاء عليها ضمن دائرة التخلف دون أية قدرة على النهوض، بقتل الوعي في ساكنتها، وربط مصائرهم بتفسيرات متطرفة ومتعصبة للأحاديث والروايات.
وتبرز ظاهرة التطرف الديني هنا بشكل واضح، لما لها من الانعكاسات الأمنية والاجتماعية الخطيرة على المجتمعات كافة، بفعل التفسيرات السطحية والمتطرفة للنصوص الدينية، خاصة ما يتعلق بأحاديث الفتن، والتي أصبحت رائجة اليوم، بفعل الحروب الأهلية التي تعيشها المنطقة العربية، وبتجاوز صارخ لمؤسسات العلماء الرسمية، والتي يبدو أن أدوارها الدينية أصبحت محدودة بفعل سياسات التطويع الرسمية، مما أصبح يفرض معه تحديات كبرى لضرورة إعطاء المكانة اللائقة لتلك المؤسسات، حتى تمارس دورها التنويري والتوعوي، وتحارب التعصب والتطرف الديني.
ولعل المنطلق في هذا الصدد، يكون من خلال إعادة صياغة أحاديث الفتن والملاحم في قالبها الوسطي المعتدل، مع الحرص على عدم ترك المجال فضفاضا للتأويل الفوضوي والتنزيل غير المنضبط؛ فمنطق الساحة اليوم يلعب دورا كبيرا في التأطير الديني والفكري، خاصة مع ترك المجال للمتطرفين في ملء الساحة بما يستجلب قوة الجذب لأطروحاتهم، والتي تؤدي في آخر المطاف إلى مزيد من الفتن والنعرات، واستمرارا لحالة الفوضى. فدور العلماء في التوجيه، وضبط تلك الأحاديث في سياقاتها الفقهية، هو دور محوري يجب تدعيمه وتزكيته، ليأخذ مكانته السوية.
كما أعتقد بأن الانتشار الواسع لهذه الأحاديث، بالإضافة إلى استغلاله من طرف الإسلام الحركي، هناك فئة من الناس غالبا ما تستجلبها غرائب الأشياء، فتحاول أن تصنع من أحاديث الفتن والملاحم دهشة في عموم الناس، بقرب القيامة والحساب، وانتهاء العلامات الصغرى، وبداية العلامات الكبرى، فضلاً عما تبدع في صناعته الأفلام الأمريكية من قصص عن نهاية العالم وغيرها، فيؤثر ذلك في نفوس الناس ويخدش عواطفهم، فيؤدي بهم إلى مزيد من البحث والاستقصاء، الأمر الذي يؤدي بهم أخيرا للوقوف عند التفسيرات المتطرفة لتلك الأحاديث.
*هل ترى أن الترويج لأحاديث الفتن بشكل عام، وإسقاطها عشوائيا على واقعنا اليوم، هو مجرد تكرار للأخطاء التي فعلها السلف في السابق؟
عند قراءتنا للتاريخ، نجده مليئا بالدروس والحكم، فضلاً عن الأخطاء التي من الحكمة تجاوزها، ومنها ما وقع فيها سلفنا، نتيجة سوء تقدير للمواقف أو بناءً لتصورات وفلسفات ضيقة، أريد بها خدمة أجندات معينة. والتقدم العلمي والفكري الحاصل في زماننا، يوحي إلينا بضرورة العبور للمستقبل، لبناء أجيال واعية بماضيها ومتبصرة لمستقبلها.
وبالتالي، فإن محاولة إيجاد الإيجابيات لإسقاط أحاديث الفتن والملاحم في عصرنا، هو شرعنة لاستمرار الفتن والعنف في بلداننا، وتكريس واقع الفوضى وعدم الاستقرار، وتبرير لممارسات التيارات المتطرفة، في “غزوها” لبلداننا، ونشر التعصب والتطرف والقتل، باسم الخلافة والوعد الإلهي، ناهيك عن أن الأخبار الواردة في هذا الصدد، يختلط فيها الصحيح بالحسن والضعيف بالموضوع،
محاولة إيجاد الإيجابيات لإسقاط أحاديث الفتن والملاحم في عصرنا، هو شرعنة لاستمرار الفتن والعنف في بلداننا، وتكريس واقع الفوضى وعدم الاستقرار
والجاهل بالعلوم الشرعية والفقهية، يقتص ما يشاء من الأخبار، ويجعلها في كتب بعناوين براقة، ملفتة للباحثين عن الغرائب والعجائب، ويسقطها بشكل غير منضبط على عصرنا الحالي، فيستمتع باستشراف مستقبل الأمة، دون أن يعي خطورة ذلك على الأجيال الصاعدة، وما يمكن أن يشكل من هدم فكري وتربوي في مسلكياتها الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن تلك الإسقاطات، مليئة أيضا في كتب الأخبار عن الصحابة والسلف ومن ب