بدا برنامج ضيف الأولى الذي يقدمه الصحفي التيجيني في حلة جديدة، فبعد أن كان متخصصا في حوار مع زعماء الأحزاب السياسية، يظهر أنه لم يفلح في تحقيق المطلوب، وانتقل إلى حوار ما يسميه بالمثقفين من أجل انتقاد الأحزاب السياسية ربما لتحريك بركة آسنة والضغط عليها لتغيير شأنها الداخلي، هذا الانعراج في البرنامج لا يمكن أن يكون وليد الصدفة بل هو وحي يوحى من أجل ترتيب أمور سياسية، ولهذا فالبرنامج ليس سيد نفسه، لأن سيد نفسه من لا سيد له .
انفتاح برنامج التيجيني على ما يسميه بالمثقفين بعد أن استنفذت حواراته مع قادة الأحزاب وخرج من الجولة متهما بشبهة الموالاة لجهة معينة على حساب أخرى، وسقطت مصداقيته، فإن هذه التجربة الجديدة لن تكون أحسن حالا من سابقاتها، لكونه سيصطدم مرة أخرى مع حريته في الانفتاح على المثقفين بالتعدد، لأنهم أصناف وأشكال وهويات مختلفة باختلاف طبقات وميولات المجتمع، فليس كما قال مضيفه، وهو رجل غلبت عليه الجدالية في أجوبته، بأن الأحزاب السياسية تفتقر كلها إلى وجود المثقفين، وهذا في نظره ، هو إحدى أسباب نكبتها، وهو تحليل سطحي يفتقر إلى البراهين الضرورية ، لأن هؤلاء المثقفين موجودين فعلا وسط جل الأحزاب السياسية، إذا كان المقصود بالمثقف على طريقة طارق التلاتي ، فهل ينفي وجود عدد من الأطر القانونية والسياسية في هذه الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي تعتبر صورة النظام في اللعبة السياسية الجارية.
فماذا يقول السيد التلاتي في التعريف الذي يقدمه إدوارد سعيد في كتابه المثقفون والسلطة، بأن المثقف هو من يجهر بالحقيقة في وجه السلطة، وليس المثقف من يقف على عتبة أبواب السلطان لمغازلته ومباركته. إن التلاتي لا يعدو أن يكون مثقف البلاط وبالتالي فمن المنطقي أن يصطف ضد مثقفي الشعب الذي يقاتلون يوميا في مختلف حقول الصراع من أجل تطور ورقي المجتمع وتحريره من القيود التي تمنعه من تنفس أوكسوجين الحرية : “يولد الانسان حرا ، و لكنه في كل مكان يجر سلاسل الاستعباد” روسو .
وعندما يقول السيد التلاتي أنه لا يعترف سوى بمن يحمل علم المغرب وشعار الله الوطن الملك، في إيحاء مكشوف لإدانة احتجاجات الريف لكونها تحمل علم جمهورية الريف والعلم الأمازيغي، إن هذه اللغة التي يتحدث بها التلاتي لا تنتمي للغة المثقف الذي عليه أن يحلل الظاهرة بدل أن يصدر مواقف سياسية تنتمي لخطاب السلطة والتي تروم تعزيز صك الاتهام، مع أن المشكل في الريف أعوص من اختزاله في الشعارات المرفوعة، المثقف قد يكون كل شيء إلا أن يكون بوقا مفضوحا للسلطة لا تزيد سوى في تعقيد الاشكالات المطروحة.
ومما يدعو للاستغراب هو أن نجد مثقفين ينتشون بالقمع الوحشي للمتظاهرين في كتالونيا من قبل نظام يحن للعهد الفرنكاوي لكي يقولوا للمغاربة أنظروا فحتى في الدول الديمقراطية يمارس القمع على شعوبها، مع أن هناك فرق شاسع وتباين في الوقائع والسياقات، ففي كتالونيا انطلق النقاش بشكل جدي منذ سنة 2015 للمطالبة بالاستقلال أفضى إلى مصادقة البرلمان على قوانين الاستفتاء ولم يحدث أي قمع للحركات الانفصالية في المقاطعات الأربع، وصولا إلى تنظيم الاستفتاء الذي تدخل على إثره الأمن الاسباني لتعطيله بالقوة، ففشل في ذلك. أما حراك الريف فلم يرفع البتة شعار الانفصال بل بالعكس من ذلك، نظمت تظاهرة حاشدة للتعبير عن رفض الاتهام بالانفصال من طرف الحكومة المغربية ومع ذلك شنت الدولة حملة اعتقالات واسعة أشبه بعملية استئصال جماعية لمجموعة من نشطاء أغلبيتهم شباب.
فهندما يحدث القمع بسبب الاحتجاج فإن المثقفين الحقيقيين يبحثون عن الأسباب العميقة لفشل اختيارات الدولة وليس تسفيه أبرياء أرادوا التعبير ، بطريقتهم عن تطلعاتهم السياسية والاجتماعية والهوياتية، فليس من المثقف في شيء من يتخندق وراء السلطة لتبرير نهجها السياسي الفاشل.
ولعل السقطة الكبرى للسيد التلاتي هو أن ينعت حركات حقوقية وديمقراطية داعمة لمعتقلي حراك الريف بمجموعة من العدميين يجرون البلاد نحو المجهول، عليه أن يعلم أن المثقف لا يقبل أن يكون ناسوسا ومثقفا مأجورا يدون مفاخر السلطة ، فكما يقول المثل الأمريكي الشهير ” تنتهي حريتك عندما تمس يدك الممدودة أنف رجل آخر” .. فلا يتشرف المثقفين أن يكون من ضمنهم ذلك الصنف الذي كلما انتهى من حوار إلا وهرول مسرعا نحو الجهات التي روضته لتبارك عمله كما باركت سدنة الكعبة في الجاهلية أعمال عبدة الأوثان . وهكذا لا يسخر لسانه إلا بعد أن تشير عليه تلك جهات التي لها مصلحة في ما يقوله في استهداف الشرفاء بكلام ملوث لا تساوي كلماته قيمة المجهود الذي بذله المنصتون للاستماع لتراهاته .
أبو علي