ذ. أحمد أعراب
كانت الشمس قد رحلت عن السماء، غرقت وانطفأت في بحر الظلمات . الليل أسدل سجفه الحالكة السواد. البحر يستعد للرحيل، احتجاجا على خرق القوارب العابرة في اتجاه الشمال لقوانين الإبحار والعبور خلسة عبر مسالك ومضايق لم تعد قناديل السماء تنيرها فتغرق بمن فيها ليصاب البحر بعسر الهضم. السماء اسبلت جفونها ، امتلأت عيونها بدمع كالحجارة ، تجمد في مقاليها ولا يريد مغادرتها نحو الارض أو البحر . وحدها النوارس ، كانت تبكي وتنتحب غيضا وكمدا وهي لا تستطيع منع رحيل البحر. متوترة، مضطربة كانت تخلت عن استعراضاتها المسائية على رمال الشاطئ الدافئة المبللة بمياه البحرواستسلمت للسعات شجونها وعذاباتها.
مدافع وبنادق منتصبة على الضفة الشمالية ، متأهبة، مستنفَرة أشد ما يكون الاستنفار في مشهد كتلك المشاهد المألوفة على جبهات القتال. مناظر حديثة، متناهية الدقة، رادارات تمسح المنطقة الجنوبية، طولا وعرضا، ترصد حركة البحر في مده وجزره وهو يطلق زفراته وينفث رذاذا يتراكم ضبابا في الجو، يسد الانفراجات والثقوب الممكن ظهورها في الدثار الرمادي الجاثم على صدر البحر، فتزداد العتمة وضيق التنفس حدة واشتدادا .
على الضفة الموالية، الضفة الجنوبية، حيث غرس البحر أوتاده منذ القدم، كانت كثافة الضباب المرافق لهيجان البحر واحتداد غضبه، تمنع رؤية ما يجري بوضوح. كانت ثمة تحركات في اتجاه البحر، محاولات يائسة ، بئيسة ، للسيطرة على الوضع ونزع فتيل حرب وشيكة بين الضفتين، غير محسوبة العواقب. عسس بهراوات وعصي كتلك التي تنهال على المتظاهرين هنا وهناك احتاجا على ما آلت اليه الأوضاع جنوب البحر، وكأن هيجان البحر وارتفاع موجه كالجبال، ورغبته في الرحيل، يمكن أن توقفه تلك الهراوات وإن كانت ما زالت ملطخة بدماء زكية أَسالَتها في آخر معركة من رؤوس صبيَّات مُنعن من اللعب في الحديقة والتسلي بالأراجيح المعلقة على أشجارها الوارفة الباسقة. تلك الحديقة صادرها أحد كبار أصحاب العصي والهراوات وأصحاب الكلمة النافذة المسموعة، وجعلها حكرا على أولاده الذين ألِفوا ركوب الطائرات والسفر بعيدا عن الوطن، وطن الجياع والفقراء، كلما تعطلت الدراسة واستشعروا الحاجة للهو والمتعة.
سرت همهمات هنا وهناك، تكثفت الاتصالات والمشاورات وعُقدت الجلسات والمؤتمرات للنظر في تهديدات البحر بالرحيل، ومدى تأثير ذلك على حركة الملاحة البحرية وحماية المصالح الحيوية والاستراتيجية لدول الشمال، التي تقتضي تحرك البوارج البحرية في اتجاه الشرق الأوسط كلما نشبت هناك حرب أو أي نزاع إقليمي تقتضي الضرورة الجيو – استراتيجية لدول الحلفاء تأجيجها و اخمادها حفاظا على السِّلم العالمي وضمان استمرار تدفق الثروات في اتجاه الشمال.
تقرر ت زيادة قوات خفر السواحل ورفع درجة تأهبها إلى مستوى الخط الأحمر مع ضرورة تشديد الضغط على الضفة الجنوبية للقيام بدورها على الوجه الأكمل لمنع محاولات الهجرة والتسلل الى الضفة الشمالية ، ومنع البحر من الرحيل تحت طائلة مزيد من العقوبات الاقتصادية والضربات الجوية ان اقتضت الضرورة ذلك، على دول جنوب البحر .
مضت أيام وأسابيع ولم يبد على البحر ما يدل على تراجعه أو إيقاف ترتيبات استعداده للرحيل . الموج يعلو أكثر فأكثر ومعه البحر ينقلب باطنه على ظاهره . عاصفة قوية جبارة تتراقص على اهتزازات الموج ونغمات ما يصدر عنه من هدير والتجاج، مثلما كانت جحافل المحتجين المعتصمين بالساحات العمومية، تتراقص على نغمات الشعارات الرنانة المنددة بأساليب تدبير شؤون الارض والعباد، والمعبرة عن تضامنها مع البحر في تعبيره الواضح المكشوف عن رغبته في الرحيل الى ارض الله الواسعة حيث لا قوارب موت ولا لحوم بشرية تطعم الاسماك فتخرجهاعن طبيعتها التي جبلت عليها منذ بدء الخليقة، تأكل من طحالب وأعشاب البحر ويأكل كبيرها صغيرها ، ولكن ان تتغذى على لحم بشري استقر في باطن البحر ، فهذا ما لم ينزل به الله من سلطان .
بين ذهول وارتباك أصاب عموم الناس في البلاد جنوبا لم يكن ممكنا التفكير في عواقب رحيل البحر بعد ان ألف الناس وجوده قريبا منهم يلجأون إليه ، يشكونه همومهم ويطلبون الانس بجواره. يأكلون مما يجود عليهم به من أسماك طرية يصطادونها بشباكهم وصناراتهم التي غالبا ما تخذلهم ليبيت الاولاد بلا غذاء ولا عشاء . يلقون بأجسادهم على شواطئه ورماله الدافئة في أيام القيض واشتداد الحرارة طلبا للراحة والاستجمام بعيدا عن تخاريف السياسة والسياسيين ووعودهم الكاذبة وخطاباتهم المملة عن الإصلاحات وتغيير الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية لينعم عامة الناس بما حرموا منه من حقهم في ثروات البلاد المسيجة بسياج الاستبداد والاستعباد.
بقي السؤال ماذا بعد رحيل البحر ، معلقا لم يطرحه أحد ولم يجب عنه احد ، إلا ما كان على الضفة الشمالية من قلق بين وهلع انتشر بين الناس انتشارا واسعا سريعا وأصبح الموضوع الأكثر تداولا واستهلاكا على شبكة الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي . وقف دهاقنة السياسة الكبار عاجزين أمام هذا الخطب الجلل الذي يهدد باتساع مساحة بحر الشمال وارتفاع منسوب مياهه ليغرق اليابسة ويقضي على ما فوقها من حياة حيوانية ونباتية ، من عمران وحضارة ، وتقدم علمي تكنولوجي . وهذا متى حدث سينهي احلام الفقراء والبؤساء من اهل الجنوب في الهجرة بحثا عن الفردوس المفقود والموهوم على الضفة الأخرى من البحر. حينذاك فقط يمكن أن يكفوا عن الهرب ويفكروا في مواجهة الظلم والاستبداد الذي يسرق لقمة العيش من أفواه ابنائهم ، ويخنق زغرودة الزفاف بين شفاه الأمهات الأرامل. وكانت الخلاصات التي انتهت إليها اللقاءات والمؤتمرات ، ان يرحل البحر ان شاء الرحيل، فهذا وحده ما يوقف الهجرة السرية الى دول الشمال ، ولكن فليرحل الى اية جهة يشاء، إلا أن يرحل في اتجاه بحر الشمال فهذا ما لا يمكن السماح به .
ذات صباح او مساء ، لا احد يدري بعد ان أضحى الزمن ممتدا واصلا نهاره بليله، لا جديد فيه ، غير الانتظار والترقب والذهول امام ظاهرة لم يحك عنها الاجداد ولا تداولتها كتب التاريخ ، أرغد البحر وأزبد ، واصطخب الموج واشتد هديره، وخيل للناس شمالا وجنوبا انها القيامة التي أخبرت عنها الكتب السماوية من توراة وانجيل وقرآن على حد سواء . انتصب البحر واقفا، كالطود العظيم يحاذي عنان السماء ، كشلال ماء تصب فيه كل انهار الدنيا والآخرة ، على عكس ما ألفه الناس ، صاعدا نحو السماء، خر الناس مصعوقين، ولم يفق منهم احد ليشهد ما كان من امر البحر ليتوب ويومن بان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقبل ذلك ارتجت أسواق المال واضطربت. هبطت الأسهم في بورصات العالم، الاوربية والأمريكية والآسيوية على حد سواء. ارتجفت الراسميل وقبلها القلوب واجفة وداخت العقول وما عادت صالحة للتفكير . جنوبا، سارع بعضهم إلى الهرب وتهريب اكياس المال المكدسة على حساب مصالح البلاد والعباد الفقراء المقهورين. لكن ، هيهات . لا مفر اليوم . وكان الناس من الهالكين المغرقين. ذلك أن البحر الذي كان أبيضا ومتوسطا، ساكنا أغلب أوقاته قليل الهيجان في الأغلب الأعم، لما بلغ عنان السماء ارتد راجعا الى الأرض فيما يشبه قوس قزح ، ليصب في بحر الشمال ليغرقا معا ما كان بينهما من يابسة كما غرقت أتلانتا قديما واستقرت في قاع المحيط.
تناقلت وكالات الأنباء العالمية فيما يشبه روايات الخيال العلمي ، خبر اختفاء الجزء الغربي من القارة العجوز ، وامتداد ضفاف المحيط الأطلسي وأصبحت قريبة من الحدود الآسيوية تهددها بموجات التسونامي القادمة من جهة الغرب ، وهلاك قسم كبير من سكان شمال القارة الأفريقية مصعوقين من هول ما كان من امر البحر المتوسط .