عبد اللطيف مجدوب
خط الوقائع
“حكواتية” تقوم على وقائع تاريخية حقيقية ؛ شهدتها الخمسينيات من القرن العشرين بشمال المغرب ، وبمركز آفسو تحديدا ، بطلها الفقيه إدريس ، حيث سينخرط في الجيش الملكي برتبة ” مرشد” ، حاز سلطة مزدوجة جمعت بين الإمامة وتحفيظ القرآن نهارا والفصل في القضايا ذات النزعة الاجتماعية والأسرية معظمأوقاته، جعلت منه رمزا ظل محل تقدير واعتبار لعدة أجيال، فطار اسمه في الآفاق ، وما زال أحفاد الأهالي يتناقلونه والصرامة التي طبعت بته في قضاياهم .
بيئة سياسية جد حساسة
شهدت سنة 1956 ، بداية جلاء قوات الحماية الإسبانية عن شمال المغرب ونيل استقلاله ، بيد أن هذا الاستقلال كان في بدايته هشا طبعته حساسية سياسية مفرطة لوجود بقايا جيوب أطماع أجنبية وداخلية تتربص ببعض المناطق المغربية ، مما حدا بالزعيم عبد الكريم الخطابي ؛ أبرز رؤوس المقاومة المغربية إلى بث نداء “رسالة” إلى المناضلين “إمجاهذان” المرابطين بثغور المناطق الريفية وحثهم على الصمود وعدم الوثوق بالوعود المزجية من طرف “الخونة” المصطفين من وراء ستار الاستعمار بوجهيه معا الإسباني والفرنسي .
خلّف جلاء القوات الإسبانية مآثر؛ وإن لم تكن بذات أهمية مقارنة لها بالمآثر الفرنسية ؛ لكن سرعان ما طالتها يد العابثين الماحقين واندكت لتتحول إلى خرائب وأطلال .. يمكن للزائر معاينة بعض معالمها؛ على وجه الخصوص بإقليم الناظور ؛ في كل من سيطولاسا وازغنغان ومعامل ويكسان ، وقلعة سلوان، ثم الثكنة العسكرية ببلعربي “كابامينتو” مسرح أنشطة الفقيه إدريس ، كانت في محاذاةلمدينة العروي والتي تضم بجنباتها أجنحة ومخادع للجنود ، إلى جانب إقامات لبعض الضباط ، يتوسطها مسبح هناك ، وعلى المحور الشمالي كان هناك اصطبل يسع لأكثر من 350 من الخيول والجياد العسكرية ، ومن الواجهة الجنوبية وبمحاذاة غور كانت هناك مستنقعات لنفايات وزيوت آسنة تطل عليها من فوق منافذ لأجهزة توليد وتشغيل آليات كهربائية لا تفتأ عن الهدير ليل نهار . وبالمقربة منها عند البوابة الرئيسة للثكنة توجد محطة لحافلة ” كورّيو” تربط بين آفسو والناظور ، وإلى جوارها مقهى “كانتينا” أو مرقص ؛ كان الجنود الإسبان عادة ما يرتادونها كلما جنّ الليل .
وعند السفح ، وعلى بساط أخضر ممتد ؛ أشجار الفواكه والزيتون والصنوبر كحديقة غناء ، تستقي من مياه طافحة لأنابيب متصلة بجدار الثكنة ، دائمة الجريان، كانت معدة لاستسقاء الأهالي والخيول والماشية ؛ يقال إنها مطمورة بإحكام تحت الأرض بطول قرابة 2 كلمترين تربط منبع امْحالة بالثكنة .
يغلب الجدب والقحط على المنطقة لوعورة تضاريسها والتي غالباً ما كانت تتميز بأرض صخرية صلبة مجللة بنبات السدر والبرواغ . ساكنتها غالباً ما تتخذ لمساكنها مسالك وشعابا جبلية حصينة ؛ تقيهم رقابة المستعمر الإسباني التي كانت تترصد تحركاتهم في الحل والترحال ، ونظرا لقوة شكيمتهم وصبرهم على البلاء وشظف العيش ، اتخذ منهم الحاكم الإسباني سندا له فأدمج معظمهم من الشبان في السلك العسكري وبرتب ورواتب مغرية .
بداية مسار
الفقيه سي ادريس أو إدريس الحياني ؛ كما أطلق عليه داخل منطقة أحواز فاس ؛ تلقى تربية عصامية ، غرست فيه منذ نعومة أظفاره الإباء والصبر على المكاره إلى أبعد الحدود ، قرأ القرآن وحفظه، كما أجاد استظهار كثير من المتون والمصنفات ذات الصلة بالعقيدة على أيدي شيوخ كثر ، منهم بعض فحول رواد جامع القرويين .
ضاقت به الدنيا بمدينة فاس فنصحه بعضهم بالتوجه إلى شمال المغرب وريفه على وجه الخصوص ، لتمسك أهله بكتاب الله وإكرام وفادة حامله ، وهكذا أجمع أمره على الرحيل صحبة زوجته الأولى، فاستقر به المقام بقرية ادْراسا ، إحدى نواحي حاسي بركان وبمقربة من مدينة العروي حالياً ، ولما استحسن أهل المنطقة تضلعه في أمور الفقه والعبادات نصبوه إماما لهم وفقيها لتعليم القرآن ، فوفد عليه بمنزله غلمان كثيرون ، بين ذكور وإناث ، ومن بينهن زوجته الثانية التي تقدملخطبتها كثير من وجهاء القوم والأعيان ، لكن والدها رفض وأبى إلا يصمد في وجه إرادة أبنائه ووالدتهم التي كانت لا تفتأ عن محاججته : ” كيف لبنت آية في الحسن والجمال والنباهة أن تروح لنصيب فقيه معدم ، وهي ما زالت في ريعان صباها لم تتجاوز بعد عتبة 17 سنة ؟!”، بعضهم اعتبر إرادة والدها تعبيرا عنقوة إيمانه بالله وتيمنا بقصة النبي موسى عليه السلام مع أهل مدين .
الفقيه واستيطانهآفسو
لم يكن يعلم بوجهته وهو يرى نفسه مكدسا بين رزم وصناديق وأفرشة رثة ، كانت تضيق بها عربة الڤولزفاغن ، وهي تترنح في سيرها عبر طريق متْرب ، تحفه شجيرات صفصاف وأعمدة متهالكة لسلك هاتفي يربط مركز آفسو بمخيم كابامينتو أو مركز المراقبة ، كانت أرضا خلاء تعج بنبات السدر والشيح والبرواغ .. بعضه مخلوع الجذور بفعل تيارات الرياح الهوجاء التي تهب كل حين من أعالي قمم جبال الريف المطلة علىأحراش ارْميلا وبلعربي ، والتي اختارها الاستعمار الإسباني موقعا استراتيجيا لإحكام مراقبته على المنافذ والممرات التي تتقاسمها قبائل المطالسا وبني بويحيى وبني يفرور وقلعية .
توقفت الڤولزڤاغن إزاء مبني واطئ من الحجارة والقش والطين ، يبدو حديث البناء ، ورائحة الطلاء ما زالت تزكم الأنوف كلما ترجل أحد إلى داخلها ، وهي غرفتانمنفصلتان يربط بينهما ممر ضيق يفضي يمينا إلى حوش هناك معد للبهائم والماشية ، ويفضي شمالا إلى الباب الرئيس .
تقدم “المقدم” بلباس مدني إلى الرجل الذي استقدموه وأسرته من قرية ادْراساوجاؤوا به على متن العربة : “آسي رفقيه كّار غنروح ثامزييذا .” سي الفقيه ! قم لنتوجه إلى الجامع (المسجد) ، استقر رأي الفقيه منذ الوهلة الأولى على أن تستقل كل زوجة بغرفة مع أبنائها ، ثم ما لبث أن دخل الحوش مجيلا ببصره في سعته وحواليه .
ذهب ثلاثتهم الفقيه والمقدم وإبنه في أثرهما إلى المسجد الذي بدت صومعته منتصبة عند سفح جبل بلعربي أو ارْميلا ، وعلى بعد مرمى الحجر من الثكنة العسكرية كابامينتو . بني المسجدعلى الطراز الإسباني ، ووفقا للطقوس الإسلامية ، قاعة للصلاة ذات نوافذ خلفية تسع ل 300 مصلي ، يتصدرها محراب ومنبر خشبي ناصع الطلاء ، وإلى جوارها غرفتان متباعدتان يفصل بينهماسحن يتوسطه خزان ماء ببكرتين ، إحداهما كانت معدة لتحفيظ القرآن والأخرى لمقصورة الإمام ذات المنفذ إلى درج الصومعة ، كما تزدان ببيتين صغيرين للوضوء.
مرشد في الجيش الملكي
مهمة الفقيه ج إدريس العمراني لاحقا كانت أشبه ما تكون “بابوية” ، جمعت بين الدينية والتعبئة السياسية أو بالأحرى مهمة الوعظ والإرشاد الدينيوتعبئة القبائل الريفية والمناضلين للانخراط في العهد الجديد ، عهد الاستقلال وعدم التبعية ، فقد ورث عن العهد الكولياني الإسباني ؛ في آخر أيامه بالمغرب ؛ رتبة ضابط ، وجعلوا تحت إشارته مساعدا ببندقية وخراطيش ، كان ملازما له في تنقلاته ومساعيه بين القبائل .. وعند حلوله بالأسواق الأسبوعية أو تردده على مركز الدريوش ، محل إقامة القيادة العسكرية .
إطلالة على الفقيه داخل المسجد
حرص الفقيه ج إدريس العمراني ؛ مثل ما انطبعت عليه أفكار شيوخه ؛ على إيقاظ أبنائه الثلاثة في الليالي الظلماء قبل حلول الفجر، وذهابهم إلى المسجد، وقلما كانوا يتبينون خطاهم إلا بشق الأنفس أو عبر ضوء قنديل زيتي خافت، تترنح فتيلته في مهب الرياح عاصفة أو ماطرة أحياناً ، ولوقع خطوهم تتحرش بهم كلاب لجار هناك ، يدعى امبارك أشارّاݣ ، كلاب ضارية لا تقيم لحق الجيرة وزنا ، فتهب مزمجرة غادرة ، تكاد بقوائمها أن تسطو على الفقيه وأبنائه ، ولشدّ ما كان الرعب يذهب بمشاعرهم وهم يشاهدون من بينها كلبة أشد سعارا ، حتى إن مجرد ذكر إسمها “شانعا” كثيراً ما كان نذير شؤم وهول ، وقلما يجد الفقيه عونا على التنصل من انتفاضتها باتجاههم إذا لم يكن أحد السكان الأهالي عابرا يريد أداء صلاة الفجر ، فالكلاب كانت تشكل كابوسا مؤرقا لأبنائه الذين لا يتجاوز متوسط أعمارهم 6 الست سنوات ، بالرغم من التعليمات التي يصدرها إليهم بضرورة لزوم الحذر والمشي على أصابع أرجلهم !
فإذا ما وصلوا إلى المسجد يمموا جهة جناح هناك ولزموا الصمت إلى حين مضي صلاة الفجر والتحاق أبناء الأهالي بهم لتتشكل مجموعة “المحاضريا” أو التلاميذ بأعمار تتفاوت بين الستةوخمسعشرة سنة، فإذا ما حضر الفقيه وتصدر مجلسه المكسو بجلود الضأنالمصوفة ، تنحنح إيذانا باجتياز”الصراط” ؛ المحضري الواحد يتلو على مسامع الفقيه حصة الأمس ليجيزه الانتقال إلى الحصة الموالية ، فإذا ما صدر منه تعثر أو زلة لسان بقلب أو إضمار أو ترقيق .. انهال عليه صوت أجش أشبه بالصاعقة : ” عاوذْ .. عاوذْ .. !” وإلا لاحقته صفعات قد تعمي بصيرته أو يرى من خلالها النجوم في عز النهار ! فإذا ما انتهت حصة ” الاستظهار/لعراضا” انتقلوا توا إلى محو ألواحهم وإعادة صلصلتها وتعريضها لأشعة الشمس ، وهي مرحلة كانت تحتم عليهم استغلال باحة جوار المسجد فيغتنمها المحاضريا للتنفيس عن أنفسهم بالوشوشة تارة وباختلاس نظرات الأسى إلى بعضهم تارة أخرى سيما إن كانوا لم يحرزوا على رضى الفقيه .
حرف الباء بثلاث نقط !
أحد أبنائه دوما كان يجلس مباشرة على يمين الفقيه ، وحديث العهد باللوحة ، يتلمس طريقه إلى تهجي الحروف ، كان يرى في إقبال والده على حلقة المحاضرياوارتفاع صخب التلاميذ بالقراءة الغوغائية إشارة إلى استعداده لتلقي اللطمات والكدمات.فجأة استدار نحوه وجعل يسأله عن حروف هجائية ما إن كانت منقوطة أم لا وكم هي عدد نقطها وأين من فوق أو تحت ، فاستهل سؤاله بحرف الباء ، فقال صاعقا: ” الباء شحار نقط .. سانيتا أو..؟!” ، أجابه على الفور ، حتى لا يتعاظم كربه : ” 2 نقط فوق..!” ، تظاهر الفقيه بعدم سماعه فقال … ” عاود… عاود..شحار..؟” ، اعتقد الإبن أن 2 نقط للباء غير كافية فجهر بإجابته وفرائصه ترتعد رهبا : ” الباء تنقط 3 من فوق ..!” ، فما كان من الفقيه ؛ وفي فورة غضب عارمة ؛ إلا أن انتزع منه اللوحة ثم هوى بها على مفرق رأسه لتنشلخ إلى فلقتين … فأغمي عنه وتبلل سرواله في أثرها .. وزاد أن وكزه طاردا أياه من جواره بكلمة حانقة ” .. كّار… نوض آياعفّان .. روح..”.
الفقيه يوم الجمعة
اعتاد كل ليلة جمعة استدعاء شقيق زوجته وكبير تلامذته وأبرزهم إلى المقصورة وتلاوة بعض الكتب الصفراء على مسامعه، يكررها مرة أو اثنتين حتى تترسخ في ذاكرته ويتخذها موضوعا لارتجال خطبته في الغد .
يوم الجمعة ؛ بالنظر إلى قدسيته في التعاليم الإسلامية ؛ كان لدى الأهالي الأمازيغ مرادفا للعيد بكل ما يحمل من معاني التآخي والتآزر والتبرك وقصد الجامع “ثامزييذا” في وقت باكر من كل الأنحاء ؛ زرافات ووحدانا مشاة وركبانا ..في أزياء ضاربة لونها إلى البياض ، يتحول محيط المسجد في أثرها إلى مضارب ومرابض لخيولهم .
في إحدى الأماسي من يوم الجمعة ، وبعد أن ضجوا بانحباس الأمطار ، خرج الفقيه عصرا في رهط من السكان ينيف عن 30 شخصاً، يتقدمهم أطفال بألواحهم القرآنية ، كانوا جميعهم حفاة بجلابيب منكوسة القباب ، جأروا بالتكبير والدعاء رافعين أكف الضراعة إلى السماء .. ثم قفلوا عائدين فأبت السماء إلا أن تستجيب لهم، ولم يلبثوا سوى قليل حتى أخذت ترعد والودق يخرج بغزارة ، أتى على القمم والسفوح ومن ثم إلى باقي البقاع .
ذات صباح عند بوابة المسجد ، التحق ابنه متأخرا قليلا بالمسجد ، وشد انتباهه وجود جوقة من السكانالأهالي في بهو السحن ؛ في هرج ومرج؛ بينما الفقيه ممسكا بيسراه وبوثوق مزلاج الباب الذي حرص على إغلاقه ، كانت كلمات الحوقلة والاستنكار تتعالى بينهم ، والفقيه يحاول تهدئة روعهم موليا عصاه جهة مركز آفسو كإشارة إلى انتظار قدوم شخص ما ، ابنه الصغير لم ينجل عنه اللبس والغموض إلا بعد وصول سيارة “جيب” ، ترجل منها مخزني وفسحوا له الطريق ليلج إلى داخل المسجد صحبة الفقيه ، وبعد لأْي عادا يمسكان بامرأة ورجل ملتح مكبلي اليدين، عرف الإبن من سحنته أنه ملازمه “رحال” الذي ضبطه الفقيه داخل المسجد في الهزيع الأخير من الليل مضطجعا مع امرأة راعية أغنام .
يوم السبت والتسوق
كانت تعد للفقيه راحلة فخمة في شكل فرسمسرّجة بعناية فائقة ، يمتطيها الفقيه في أبهى حلله ، يسير في ركابه كبير تلاميذه سي أحمد وأحياناً ابنه الصغير ثم كلبه الوديع “سكحال” ، مسيرة ساعة باتجاه مركز آفسو حيث يحتضن السوق الأسبوعية، ويغتنمها السوقة في الطريق ليتبركوا بطلعة الفقيه ويمطروه بعبارات التجلة والاحترام والاستبراك.
سوق أسبوعية مشهورة بين عدة قبائل، يتوافدون عليها من كل حدب وصوب ؛ من فرخانة والناظور وميضار والدريوش.. ومن تاوريرت .. تشهد تجمعا قبائليا ضخما ، كانت هناك إقامة معدة للفقيه بمقر القائد إلى جوار أعيان وكبار القوم ، كان حضوره ذات أهمية قصوى كرمز ديني إلى جانب دوره في لمّ شعث بعض فخذات القبائل المتناحرة .
يغتنمها ابنه ليبتاع البيض الذي أودعته أمه ليقتني لها بعض الأغراض قبل أن يعرج علىزيارة “المجزرة” ولقائه بجده هناك ج الحسن ، فيمن عليه بقطعة نقد إسبانية “آربيّاع” ، ولكم كان يستهويه منظر طاولات متجاورة مكدسة بقوارير زجاجية ، وأصحابها يلغطون بحناجر لا تعرف الكلل : ” …غاسيوسا.. آغاسيوسا.. برّاد غاسيوسا..” .
وإذا ما تحولت الشمس إلى كبد السماء أخذ الفقيه في التجوال بين الخيام والمضارب.. كان محل ترحاب لا ينفد له معين ، من شدة العطايا التي يحرص عليها الزوار بعناية لإيصالها إليه والتزود بدعواته، أما فتاويه والفصل في قضاياهم فكانت بمثابة “فيصل”نهائي غير قابل للنقاش أو الطعن ، ومن ثم وجدت فيها بعض القبائل في نزاعاتهم “المِلكية” أو المواريثية أو العائلية .. حَكما لا يمكن إغفاله ، سواء في استصدار الأحكام أو طلب الاستشارة .
ليلة مشاورات بتفجير الوضع
ليالي الفقيه ؛ في رمتها؛ كانت ضيافات أعراس ومناسبات عديدة، جرت عادة الأهالي بألا يكتمل نصابها إلا بدعوة حضور الفقيه ، لإضفاء هالة التجلة والاعتبار على المناسبة ، وذات ليلة وبعد مسيرة مضنية في الشعاب الصخرية على ضوء قنديل باهت، وصل الفقيه وملازمه رحّال صحبة كبير تلاميذه أحمد وإبنه ، كانت أصداء الدفوف والأهازيج تتردد من حول الدار”ثادّارث” التي كانت تحتضن فيما يبدو مناسبة عرس من الطراز الأمازيغي الريفي الفخم . رحب صاحب الدار بالفقيه وشق به الصفوف داخل الباحة التي غصت بفرق فلكلورية يشهرون بناديرهم المدوية لظهور طلعة الفقيه بمعية صاحب المنزل … قبل أن تنتهي بهم الخطى إلى قاعة الضيافة “آخّام إنوجيوان” والتي ضمت بين ضيوفها أشهر وجوه رؤساء القبائل وأعيانها .
كانت نظراتهم مريبة ؛ يتبادلونها في صمت ، لا تلبث أن تصحبها همهمات ، وليشتد ضجيجها سيما في أثر دخول الفقيه وتصدره للمجلس ، بين الحين والآخر كان هناك أشخاص يذرعون القاعة الواحد تلو الآخر والشرر يتطاير من أعينهم ، يضمرون الإقدام على”مجزرة” وسط المدعوين ! همس الفقيه إلى ملازمه بألا يشهر سلاحه ، كان الليل بهيما ولف المكان هرج ومرج بين مناصرين ومجاهدين “إمجاهذان” لتيار عبد الكريم الخطابي “والجمهورية الريفية “، وبين موالين “لاستقلال المغرب الجديد” الذي كانوا في أعين مناضلي عبد الكريم الخطابي “خونة” . وبعد طول انتظاروحصار الضيوف ، ولج القاعة شخص يتمنطق حزاما بخراطيش حربية ثم توجه إلى الحضور بنظرات غاصبة ولغة توعد وتهديد وبريفية قحة : ” السوق… وغّا يعمراشا آنبذوي.. ثسنو ..السوق ..وغّا ” لا للتسوق غدا لإشهار عصياننا في وجوه”الخونة” . اشمأز الفقيه لسماع التهديد والتحدي ، وأخذ يتململ في جلستهكما لو كان يريد أن ينفجر بكلام ما ، بيد أن صاحب الدار مال عليه وأوعز له باللواذ بالصمت حتى لا ينقلب عرس الفرح إلى عرس دماء ، ودعاه همسا إلى قضاء الليل بمنزله خوفا من أن يلقى حتفه في الطريق هو ومن معه !
العودة إلى الأصل
وضعية الفقيه إدريس ازدادت تحسنا ، فارتفعت إيراداته جراء الزكوات والعطايا والأكرميات والفتاوي ومنحة الحماية الإسبانية .. لكنه أدرك ؛ فيما بعد بثاقب بصره ؛ ما أصبح أبناء الأهالي يعيشونه من فراغ وندرة فرص عمل ، فخشي على مستقبل أبنائه من أن يصبحوا يوما رعاة ماشية يتراشقون بالحجارة في الشعاب والأودية .. فاستقر رأيه على أن يشد الرحال إلى مدينة فاس ثانية ويزهد في النعيم وبحبوحة العيش والمركز الاجتماعي الكبير الذي ربطه بمنطقة الريف لأزيد من عشرين سنة ، وينشد مستقبل أبنائه في فضاء يكفل لهم حسن التربية والتعليم ، فوفد على فاس في شهر نونبر 1960 ، واستقر بالمدينة العتيقة إلى جوار مسجد الحدادين الذي سيتولى إمامته بمرسوم ملكي لأكثر من أربعة عقود. أخذ في البداية يتردد على مؤسسات تعليمية عديدة برغبة تسجيل أبنائه والذين تجاوزت أعمار بعضهم السبع سنوات كحد قانوني آنذاك للالتحاق بهذه المؤسسة أو تلك ، فضلاً عن انصرام آجال التسجيل ، أبواب التعليم العصري كلها كانت موصدة في وجهه حينما يكشف لهم عن خلفيتهم القرآنية ، ولم يعد أمامه ؛ في نهاية التطواف ؛ سوى “التعليم الأصيل” المتمثل وقتها في جامع القرويين وحلقاته التعليمية .