عبد اللطيف مجدوب
يسكن أبناء البشرية في كل أنحاء العالم ؛ بدءا بقبائل الأسكيمووانتهاء بسكان الهملايا ، لا يفتأ عن الحفر والتنقيب وأحيانا عن إيقاد الشموع والتحليق في الفضاء اللامنتهي ؛ يتحدث لغات كل الكائنات ويحظى دوما بكرم الضيافة والوفادة أنى ذهب وارتحل ، يتجاوب مع ظرفيات مطلقة ؛ حتى ولو كانت لدبيب نملة على صخرة صماء في ليلة ظلماء !
وقف يوماً يتأمل احتضان أمواج البحر لبعضها في صخبها وتلاطمها ، فتداعى له سيل من الأسئلة يود أن يفاتح بها الماثل أمامه :
- أيها البحر! هل تركب صخب أمواجك كلغة تريد أن تعبر بها عن جبروتك ؟
- لا .. هي مجرد خطوات لي على درب تقديم مؤونة للآخرين .
- “مؤونة” ! ماذا تعني ؟
- لا تنس أني آوي كائنات ومخلوقات ، هي من التعدد والتكاثر حيث لا يمكن أن تدخل تحت الحصر.
- لكن عبابك أحياناً قد يودي بحياة آخرين ، سواء كانوا على متن قوارب أو سفن.
- وهل تعلم أني عدواني لهذه الدرجة ؟ كلا.. إن هناك الرياح التي تستميلني أحياناً لاقترافنا ذنوبا مثل هذه .
- لكني لا أرى لها هذه الصفاقة وأنا أقف هنا بالبرية ، أيتها الريح! هل صحيح أن معدنك ذو أصولعدوانية ، في اقتلاع الأشجار وإغراق السفن والعصف بالقوافي؟
- كلا.. أنا روح ناعمة ؛ حينما لا ينغصني شيء ، أتحول حينها إلى نسيم عليلومرشد معين ومادة تجفيف .. لكن عندما تعتريني سورة غضب أصير عاصفة أو إعصارا لا يبقي ولا يذر .
- ومن يحملك على الغضب بهذه الشراسة ؟
- لا أدري ، قد تكون روحي فقدت توازنها أو استلبتها قوى أخرى.
- فقط تمنيت أن تكون لي أجنحة لأرافقك في إحدى رحلاتك.
- لا تستطيع ، فسبلي محفوفة بالمخاطر ، حتى ولو كنت على متن طائرة نفاثة ، وهل تملك جسما قادرا على التحليق في درجة 500 تحت الصفر مثلا ؟ وبسرعة تفوق سرعة الصوت ؟
- يبدو أنك مارد جبار ، في درجة هيجان البحر ، ولا أعلم مصير الأرض إذا تكالبتم عليها أنتم الثلاثة ؛ الإعصار وتسونامي البحر والاحتباس الحراري!
- نسيت الإنسان وهو الفاعل في كل ما يعتمل على وجه هذا الكوكب.
- إنه ضعيف أمام الجبابرة ، في حجم تسونامي ، أم إن هناك قوة خارقة يستمد منها الإنسان بطشه ؟
- نعم ، بالتأكيد ، هناك قوة كونية ، نحن جميعاً ما إلا ملامح ضعيفة لمخزوناتها اللامتناهية.
- ربما تقصد السحر .
- هي خارقة وجامعة لكل أشكال السحر ، فقد يصبح الإنسان في ظلها يوما قادرا على إنشاء مماليك على سطح الكواكب البعيدة.
- وهل يمكن أن تدلني على هذا السحر أو بالأحرى القوة الخارقة ؟
- عليك أن تسائل السماء التي تحتضنها والموكلة عليها .
مع السماء
سار بخطوات متثاقلة ، وبين فينة و أخرى كانت تحين منه التفاتة إلى البحر طورا وإلى السماء طورا آخر، حتى إذا أوشك قرص الشمس على المغيب ، توقف لحظة وهو شارد الذهن ، ثم ما لبث أن استدار من حوله وهو يتأمل جحافل الظلام وقد شرعتتدق خيامها في الأفق البعيد ؛ كان مهووسا بالنظر إلى رقعة السماء المرصعة بمصابيحها، فبدا وكأنه فقد شيئاً وراح يبحث عنه في السماء.. ولحظة توجه إليها وفي أعينه كانت تترقرق خيوط أنوار صادرة وراء السحاب :
- لكم أنت جميلة ! تتوشحين بحلل لا يحصى لها عدد ؛ تارة بالزرقة حينما تتبدد السحب ، وتارة بالفضية لما يوشك قرص الشمس أن يستحم في مياه البحر ، وتارة بالصفرة حينما تشن الرياح غارة على مكان ما .. وتارة .. وتارة..
- وعائي أوسع مما قد يخطر على بال ، فقد وعيت فضلاً عن المجرات الكونية ، سبلا لانهائية لأجسام روحانية ونورانية ، وبأحجام لا يطيق العقل البشري على استيعابها أو قياسها.
- “أجسام روحانية” ! .. وما وظيفتها ؟
- قد تكون جزءا لا يتجزأ من المعادلة الكونية.
- مهلا.. مهلا “معادلة كونية” ، لا بد أنها تخضع لحسابات دقيقة ، لكن وما دورها فيما تزخر به فضاءاتك ؟
- تعمل دوما على الحفاظ على توازن القوانين ، والحيلولة دون تعرضها للخلل.
- وماذا يعني لك التعرض لخلل ما ؟
- الفناء بعينه.
- وددت لو تقربينني من قانون واحد مما يحكم توازن هذا الكون.
- الشمس مثلا ! فهي تطل على الأرض في أوقات معلومة ، كما تغيب لمواقيت معينة ، فإذا انحرفت الحسابات عن مسارها ولو بجزء من الدقيقة ، حتما سيعقبها دمار.
- وماذا عن الغنى ؟ أيخضع هو الآخر لمعادلة أو بالأحرى لقانون ؟
- كل أشكال الغنى من حولك محكومة بالزمان والمكان ..
- لا.. ليس هذا .. أنا أريد أن يصطحبني الغنى والثراء أينما حللت وارتحلت!
- قد تصير كذلك ، ولكن..
- ولكن ماذا ؟ دُلّني بربك على هذه المعادلة ؛ معادلة الغنى والثراء.
- لك أن تصير غنيا ، ولكن مقابل أن تتحلل نفسك إلى بهيمة شريرة.
- وهل لي أن أقي نفسي من الوقوع في مزالق البهيمية ؟
- ليس لك ذلك ، وإلا عشت وحيدا في كوكب مقفر.
- بمعنى أن الغنى ليس بذات قيمة إذا كان صاحبه منعزلا ؟
- هناك الغنى.. والغنى .. فما تلهث من ورائه قد تجده.. ولكن قد يذيقك كل ما هو فان.
- وبما أني محكوم علي ؛ من خلال هذه القوانين الكونية ؛ بالفناء فما ضير من أن أقترن بالغنى الفاني ولو إلى حين ؟
- وهل المتعة الفانية مثلها مثل المتعة الباقية ؟
- “المتعة الباقية” وما السبيل إليها ؟
- هي التي تلازم روحك بعد فنائها الأرضي.
مع الحظ
أصابته حيرة ، فعزم على أن يطرق باب الحظ ، عله يجد لديه معادلة لغناه ، لكن لسوء طالعه ، وجد طوابير بطول آلاف الكيلومترات تنتظر ببابه المصفحة ، وخشية من أن يطول انتظاره لسنوات ، ارتأى أن يندس من بين الصفوف الأمامية بقناع شيخ هرم لم يعد يقوى على الوقوف والانتظار ، فحل دوره لينفتح له الباب ويلج إلى لقاء الحظ . أصابته دهشة غامرة وهو يتفرس وجه الحظ ، مستويا على أريكة سندسية تحلقت من حوله صبايا ، تارة ينشدن له تراتيل ، وأخرى يناولنه أقداح الشراب.
وقف متسمرا في مكانه ، وإذا بإحداهن جاءته على استحياء تقول :
- الحظ في انتظارك ، خاطبه..
- سيدي..! كل السعداء الذين يسكنون هذا الكوكب يتغنون ويشيدون بأياديك البيضاء عليهم ، وأنا جئت اليوم لعلك تنفحني من كرمك.
- الحظ ؛ منتفضا في أريكته ؛ قد تكون أخطأت في عنواني ! فأنا الحظ الذي يتعامل مع الصبر والأناة ، لا مع العجلة والأقنعة ، هلا كشفت عن وجهك؟!
مع الماء
ولى أدباره ، وخرج ينشد النجاة ، وبعد أن أضناه المسير في فيافي الصحراء ، لاحت له من بعيد واحة.. عندها قعد إلى جذع نخلة وتناول قربته يعبّ منها ويصب على وجهه ، حتى إذا استعاد عافيته ، توجه ببصره إلى عين كانت غائرة هناك وسط طحالب وأعشاب لبلابة متسلقة ، فلم يتمالك أن خاطبها:
- من أين ورثت هذا الينبوع الرقراق وسط هذه الكثبان الصحراوية ؟
- إنها الحياة التي أبت إلا أن ترفع أشرعتها في كل مكان ؛ صحراويا مقفرا كان أو سهلا خصبا يانعا.
- ولماذا كان ماؤك زلالا بهذه العذوبة التي لم أقف لها على نظير ؟
- لأنك .. كنت على وشك الموت .. بعد أن نفد منك ينبوع الحياة.
- نعم .. أي .. نعم .. ولكن أحياناً يخال لي من بعيد وكأنك تجري ذهبا.. لشدة الاصفرار الذي يعلو جريانك في السواقي.
- لدي شقيقة تسكن في السماء.. نتعاون معا في إمداد الكائنات بالحياة ، نغدو معا ذهبا ، ولكننا نصبح أخيراً مياها ودماء..
- “دماء” !
- كيف.. غريب أن تتكلل جهودكما داخل الكائن الحي بدماء حمراء.
- هناك ألوان شتى لاقتراننا داخل الأجسام.
- أنا أسأل عن الذهب الخام ، وبما أنك سيدة الأغوار والقيعان ، فهل لديك معادلة للاهتداء إلى هذا المعدن ؟
- الذهب الإبريز.. يأوي إلى باطن الأرض ، فاسأل عنها أمنا الأرض ، أما إذا كنت تريد الذهب الرخيص فموجود ولكن ..
- دلني عليه .. ولا يهم إن كان رخيصا أو ..
- هو الذهب الذي يعادل الحياة ، فقد تعثر على سفينة ، كلها محملة بأقراص ذهبية ، لكن أهلها نفد منهم الماء..
- وماذا يعني هذا ؟
- قد تنقذ حياتهم برشفة ماء مقابل احتيازك للسفينة وحمولتها من الذهب .
- “حمولة سفينة من الذهب ” ! .. عظيم ، ولكن هل لك أن تدلني على إحدى هذه السفن الجانحة ؟
- إنها تعبر قريباً من هذا الينبوع .. لكن دائما تذكر أن الحياة معادلة معقدة ، تبدأ بعنصر الماء وتنتهي به.
الماء والذهب
ملأ قربته بالماء ثم شق طريقه وسط الرمال بكثبان لا يستقر لها قرار.. بين الحين والآخر كانت تحين منه التفاتة إلى الوراء فلا يجد لموطئ أقدامه أثرا ، بفعل الرياح التي كانت تعوي هنا وهناك محملة بحبيبات رملية دقيقة ، كثيراً ما كانت تصفعه .. سار حتى إذا استوى على كثيب عال ، إذا به يلمح في الأفق البعيد جهة المشرق لونا رماديا داكنا ؛ تقبع خلفه زوبعة تضرب في كل اتجاه ، فلم يجد بدا من أن يحتمي بكثيب وينتظر ، لكنها كانت أشد وطئا فأضافت إلى الكثيب أثقالا فوق أثقال .. حتى كادت أن تقبره حيا لولا الرياح التي عادت لتعريتها. كان تنفسه متقطعا وحبيبات العرق تتصبب من على جبينه ، وهو لا يدري بعد الاتجاه الذي سيسلكه ، وعلى حين غرة وبينما كان يبلل عنقه ، إذا به يرى على شكل سراب راحلة تخطو الهوينى ، تهلل وجهه بعد حين وهو يرى طلعة جمل يحث الخطى ، ينوء تحت حمل ثقيل ؛ كان ينسدل على جانبيه ، يعتلي سنامه شخص مكوم في قطع أثواب بالية ، ولما دنا منه توقف مُصدرا رغاء حادا ؛ جعل صاحبه يتململ محاولا الكلام ، فلم يلبث أن خر إلى الأرض يتنهد:
- ماء.. ماء ..!
- ماذا تحمل ؟
- ذهبا..
- سأسقيك رشفة قبل أن نتقايضا.
ناوله جرعة ماء ؛ جعلته يذهب في سبات عميق ، لكن ما إن عاود الجمل رغاءه حتى فتح عينيه منتفضا وكأنه استيقظ من كابوس.
- هلا زدتني منه..؟
- مقابل ماذا ؟
- مقابل هذه السفينة بحمولتها..!
- أنِخْ جملك لنتعرف إلى حمولته..
- سْ.. سْ..سْ..سو ، لم يكد ليسمعها بلسان صاحبه حتى ناخ ، فأسرع إلى جرابه يتحسسها قبل أن يفرغ حمولتها ، وكم كان ذهوله وهو يرى قطعا وأقراصا لمجوهرات ونفائس ؛ كاد لمعانها أن يذهب ببصره ، التفت إليه وعاد ليسقيه ثانية:
- من أين لك بهذه الكنوز ؟
- تجارة.
- تتاجر في الذهب مقابل ماذا ؟
- ذهب بذهب و..
- وزادك ؟
- قد نفد مني الماء والطعام منذ يومين.
- إلى أين كنت متجها ؟
- واحة الماس.
- “واحة الماس” ! وهل تنتج الماس ؟
- أهلها يستخرجونه من برك عميقة ، وهو بجودة رفيعة لا مثيل لها ، يتهافتون عليه التجار مهما عظم سعره.
- أتقبل أن أكون لك طاعما وساقيا ؛ خلال مسيرتك إلى هذه البلدة ؛ مقابل أن تتخلى لي عن حمولتك ؟
- قبلت.
أمضيا ليلتين يتنقلان من كثيب صحراوي إلى آخر ؛ يسترشدان بالنجوم تارة وبالبوصلة أخرى ، وفي الليلة الموالية ، وبينما كان يرقد إلى جوار جمله في جوف الليل ، حانت منه التفاتة.. فاختلس منه جرابه وأومأ إلى جمله ليتعقب خطواته.. وبعد حين استقله واستأنف مشواره بعد أن أَمِن طعامه وشرابه وبضاعته ، تراءى له من خلال عملية فلكية أنه لم تعد تفصله عن الواحة سوى مسيرة يوم وليلة.
أناخ جمله وأراد أن يخلد إلى الراحة بعد أن يتناول قسطا من الطعام والشراب ، تهافتت يداه على الجراب ليجد بداخله قربة مملوءة بالرمل إلى جوار كيس ملئت بفضلات الجمل!
كان حنقه شديدا ؛ ما حيلته بعد أن أخذت حالتهتتضور جوعا وتشتد عطشا؟! ..
حاول أن يعود أعقابه لعله يجد خصمه في الطريق ، لكن حالته لم تكن لتطاوعه بالرغم من صبر الجمل الذي أذعن لأوامر صاحبه ، فأقله إلى حين ، ولما بعثت الشمس بخيوطها إلى تلك الكثبان كستها حلة ذهبية أتت على كل الأنحاء ، بما فيها ناحية المشرق التي تراءت من خلال قرصها هامة تجدّ طريقها وسط تلك الفيافي.
كان هائما على نفسه لا يلوي على شيء ، لكن وفي آن آخر كان يتساءل في قرارة نفسه:
“ هل الإنسان مجبول على الطمع ؟ هل كان صاحب الجمل سينكث بوعده لو كانت بضاعته من صوف أو أقمشة ؟ لماذا.. هل الذهب أحد أسباب شقاء الإنسان ؟”
مازال كذلك تنهش ذاكرته أفكار تلو أخرى ؛ حتى توقف جمل في ظله ، وكأنه عثر على صاحبه الذي ضل الطريق!
