عبد اللطيف مجدوب
بيئة الأقصوصة
أحداث درامية متلاحقة ، كانت إحدى الفيلات وسط لندن مسرحا لها ؛ وسط تضارب الآراء بشأن إيوائها أرواحا شريرة ؛ تهدد حياة كل من سكنها ، تربط خيوط الجريمة بين سلّام ؛ صاحب حاسة الشم فوق العادية ، وخادمة الفيلا.. ثم أخيراً أفراد تابعين لشركة تايمز لرعاية الحدائق السكنية.
داخل عيادة
كانت غرفة الانتظار غاصة بالزوار ؛ بين فينة وأخرى ؛ كان يراجع ساعة معصمه في حركة شبه عصبية ، لكن سرعان ما استوى واقفا وهو يسمع ممرضة تناديه برقمه.
بادره الطبيب وهو يتفحص سطيحة وجهه :
- ” .. مستر سلّام.. تبدو منبسطا أكثر..هلّا ..”
قاطعه بحركة متشنجة:
- “ليس هناك تغيير.. فحاسة الشم لدي ما زالت هي هي..”
- “لقد اتصلت بالبروفيسور الإخصائيهالمين واستعرضت معه حالتك.. لكن ..”
- “ لكن.. ماذا..؟”
- “ مشكلة التكلفة اجتزناها ، لكن نسبة نجاح العملية يقول بأنها ليست مضمونة مائة في المائة ، امنحني متسعا من الوقت حتى أقرر ما إن كان مفيدا إجراؤها أم لا..” .
غادر لتوه العيادة ، ودلف إلى سيارته ڤيراري ، قعد مقطب الجبين قبل أن تنطلق به في ذروة الصباح بشارع أولد ستريت ؛ أكثر شوارع لندن ازدحاما وصخبا، كان الضباب يلف ناطحات السحاب فيتمطى بين جنباتها وتزيده أدخنة السيارات لونا داكنا ؛ لا يتبين السائقون سكتهم إلا من خلال هالات أضواء بين معلقة وخلفية .. ضغط على زر المكالمات الصوتية فانهالت عليه تباعا وفمه لا يكف عن امتصاص حلوى البانغو :
- “فيلا بشارع صامويل..”
- ” قاعة للرياضات.. بسانباولو..”
- ” 10 جياد السباق… مانهاتن ..”
- ” يخت… بقوة 50 أحصنة … سوهو “
تلفظ برقم هاتفيوشرع يتحدث إلى أحد مساعديه :
- ” برادو.. مرحباً، حاول معاينة الفيلا بشارع صامويل ،،”
- “نعم سيدي سلام ..عاينتها البارحة وهي في حالة جيدة، وأن مالكها حريص على التخلص منها..”
- ” كيف التخلص منها، فقد يكون هناك ثمة عيب بها “
- “حادثته في دواعي بيعها فأشار إلى طارئ صحي وراء ذلك..”
تستر على فعل إجرامي
كانا يقفان وجها لوجه مستندين إلى جدار لإحدى ضفاف نهر التايمز ؛ همّ أحدهما بتوليع سيجارته.. ينفث بدخانها نفسا عميقا قبل أن يتوجه إلى صاحبه :
- ” برأيي أن القضية أصبحت في طي النسيان “
- “ومن أدراك بهذا… فقد يكتشفون فعلتنا..”
- “..كيف..؟!.. ونحن رتبنا لذلك بعناية.. خمس سنوات مضت، وقد تعاقب على السكنى أناس عديدون..”
- ” إن الجثة على بعد عميق، حتى ولو حاولوا زرع الحديقة فلن يعثروا على شيء”
- “المثير للانتباه أن نزلاءها لا يمكثون طويلا.. خمسة إلى ستة أشهر ثم تنصب ببابها لوحة للبيع..”
داخل الڤيلا
ثلاثة أطفال كانوا يمرحون داخل الحديقة، يتعاقبون على لعبة الأرجوحة، فيما كانت الأم منتحية مكانا تحت شجرة الجميز وارفة الظلال ؛ تتهامس مع زوجها سبنسر :
- ” هذا شيء لم أعد أطيقه ، لقد مضى على إقامتنا هذه بضعة أشهر ، لكن لياليها أصبحت مرعبة ..”
- ” لقد أصبحت على قناعة بأن ابتياعها لنا بذلك السعر المغري وراءه ما وراءه…”
- “ليالينا بيضاء حافلة بالأشباح والأخيلة الرهيبة..، أحياناً تكون مصحوبة بالنواح والأنين ؛ أخشى أن تمتد أيادي أرواح شريرة إلى أطفالنا ! “
- “هذا ما أصبح يتملكني ، فقد آن الأوان لنهجرها ، ولكن علينا أولاً عرضها للبيع “
فتح الزوج سبنسر دليلا ضخما لأرقام الهواتف، وفجأة صاح : ” لقد وجدته ” ، أقبلت عليه الزوجة مستفسرة :
- ” من هو..؟”
- ” الوكيل العقاري القريب من منطقتنا “
- ” آلو.. هيلو المستر كلوبي ، أسأل عما إن كان لديكم ڤيلا للبيع بمواصفات شبيهة بالتي أقطنها حالياً.. بشارع صامويل ..”
يرد عليه كلوبي باندهاش مبطن :
- ” ربما سبقت لناتعاملات مع هذا العقار ، دعني أراجع سجلاتي وسأوافيك بالرد حالا” ، لم يمض سوى وقت يسير حتى عاود الاتصال به :
- – ” مستر سبنسر.. مرحبا ، معك الوكيل العقاري كلوبي ، سأكون في انتظارك بالطابق الثاني عشر ، مبنى الكونكورد ، إذا لم يكن لديكم مانع.. “
- ” طيب.. طيب.. سأحاول الالتحاق بك في غضون ساعة.. “
الڤيلا المسكونة
استقل سيارة أجرة في اتجاه المبنى الزجاجي الكونكورد ، وفي أقل من نصف ساعة التحق بالطابق ، كان مزدحما بالمكاتب وغرف التسجيل والمعاملات ، فذهب توا إلى مكتب الرئيس ، وقدم نفسه :
- “ سبنسر.. سبنسر الشخص الذي…”
- استدركه كلوبي ” آه نعم..مستر سبنسر.. مرحباً أترغب في مشروب شاي ؟ “
- “ شكراً.. إنه لكرم منك..”
أخرج كلوبي من درجه ملفا أصفر ، وشرع يتأمل أوراقه قبل أن يتوجه إلى سبنسر بنظرات حادة ؛ تشع تحت نظارة طبية :
- “نعم لدي معاملات عديدة بشأن هذه الڤيلا ، لكن وحتى أكون معك صريحا فقد يطول بيعها..”
المستر سبنسر مستفسرا بنبرة لا تخلو من اندهاش :
- “ڤيلا بمواصفات فخمة ، ويطول بيعها .. كيف ؟!”
كلوبي يزيح عنه النظارة ثم يهمس إلى صاحبه ببرودة:
- “إنها مسكونة بأرواح.. وأخذت أصداؤها تجتاح الباعة في المدة الأخيرة..”
- “علي الانتظار أم ماذا..؟. “
- “ الأمر أمرك ، لكن إذا كنت راغبا في واحدة أخرى وبنفس المواصفات فلدينا منها حالياً 3 ڤيلات ؛ تتراوح أسعار كل منها ما بين 1 مليون إلى 1 ونصف مليون جنيه..”
سبنسر يخرج علبة سجائر ملتفتا إلى كلوبي ، أمسموح لي..؟ “
- “ لا عليك… “
يعبّ منها نفسا عميقا قبل أن يستطرد في حديثه:
- “وما هو سعر ڤيلتي في تقديرك الذي بات مرجحا ؟ ” .
كلوبي ينهض من على كرسيه :
- “.. سيكون في جميع الأحوال بخسا سوى في حالة واحدة وقد تكون مستبعدة ، هي أن يأتينا طلب اقتنائها من خارج المملكة المتحدة ..”
- “ لدي اقتراح بدفع نصف سعر إحدى الڤيلات الثلاث، والنصف الآخر سيكون مرهونا بڤيلتي لأجل معلوم “
- “ نحن في الشركة لا نسمح بهذه المعاملات، لكن إسهاما منا في إيجاد حل لحالتك، ستكون ڤيلتك مرهونة بالربع فقط ولمدة شهر “
- “ ومتى يمكن لنا معاينة الڤيلات ؟ “
- “ وكيلي،كان قد أخطرني للتو بأنه سيغيب في مهمة استشفائية بعد أسبوع ، وسأتصل به فوراً لترتيب لقاء بينكما غدا في ڤيلتك ، وإن كان يمتنع عن ولوج المباني السكنية “
ظل سبنسر وعلى مدى ساعتين في الانتظار بباحة حديقته، كان مصمما على أن ينفك من إقامته مهما كلفه ذلك لطالما أصبحت جحيما لا يطاق، وربما غدت يوما مرتعا لأرواح شريرة تقصدها من كل الأصقاع.. ما زال كذلك مستسلما لهواجسه إذا بجرس الباب الرئيسي يرن ، فانتفض مسرعا نحو الباب ، ووجد سلام أمامه داخل السيارة :
- “هيلو.. مرحبا السيد… “
- “ سلاموكيل كلوبي.. مرحباً إذا سمحت لنتحدث داخل السيارة “
- “ لا.. لا.. عفوا سنكون سعداء بوجودك بيننا داخل الحديقة.. لقد رتبنا لهذه الجلسة كل شيء”
خرج سلام وترجل من سيارته ليصطحب سبنسر إلى طاولة كانت معدة بإحدى جنبات الحديقة المزدانة بالورود والياسمين. أخذ سلام ؛ في مقعده ؛ يجيل النظر من حواليه ؛ شجيرات وفراشات متهافتة ، وركن خاص للعب الأطفال ومسبح.. واخضرار يطغى على كل الألوان أنّى تحول بنظراته .
أحضر صورا لڤيلات يريد عرضها على سبنسر، أعرض عن شرب أي شيء باستثناء كوب ماء ، لكن فجأة أطرق برأسه وكأن أمرا داهمه وملك عليه أحاسيسه ، فأخذ يتأوه ، لكن وعلى حين غرةخرّ إلى الأرض في شبه غيبوبة.. فهبّ سبنسر مسرعا إلى محاولة إنجاده بينما سارعت زوجته للاتصال بفرقة الطوارئ ،
ظل أفراد من البوليس القضائي يمشطون الحديقةذهابا وأيابا وأعينهم ممتدة إلى كل الشرفات .
عاد إليه رشده قليلا ، لكن سرعان ما أخذ يشير بكلتي يديه إلى جهة خلفية من الحديقة ، اعتقد بعضهم أنه مس من الجنون فأخذوا يتراجعون إلى الخلف بيد أن عينيه الجاحظتين ظلتا مسمرتين على مكان هناك ، ففغر فاه مصرخا :
- ” هناك.. في ذاك المكان..”
أقبل عليه سبنسر :
- “.. هل ترى شيئاً معينا..؟”
- “ أنا أشم رائحة عفنة لرفات آدمي..!!”
كبير فرقة التفتيش يأمر بمعاينة المكان حيث كان يشير ، فتم حفر المكان، وكلما زاد الحفر عمقا كلما كان يصرخ واضعا سدادتين على منخريه، وكم كان ذهول فريق التفتيش وهو يعثر على عظام آدمية ملفوفة في قطعة قماش نخرة .
حلت بالمكان فرقة إخصائييالجريمة مصحوبة بأخرى قضائية مع مندوب أمن المنطقة.
التحقيقات تسفر عن
أوضح مندوب الأمن للصحافيين أن الڤيلا عرفت ؛ منذ خمس سنوات ؛ اختفاء خادمة أثناء غياب أهل الڤيلا ، مع سرقة مجوهرات ، وجاء في بعض التقارير أن الأهل أودعوا طلبا لدى شركة التايمز لرعاية الحدائق السكنية لتشذيب عشبها وتنقيته من الطفيليات أثناء غيابهم ، وأن الأمر لا يعدو مؤامرة من تدبير الخادمة بتواطؤ مع فرقة التشذيب..
يسدل الستار على
عناوين حمراء بارزة تتوالى على قناة CNN تباعا منها :
- عمال الشركة (TCRG) المكلفة بتشذيب الحدائق ثبت تورطهم في جريمة مقتل خادمة الڤيلا ؛
- إعادة تمثيل الجريمة أكدت سطو عمال الشركة على صندوق مجوهرات ، فحاولت الخادمة إبلاغ الأهل والشرطة ؛
- عمال الشركة ؛ مخافة انكشاف أمرهم ؛ عمدوا إلى مقشة وهووا بها مرات على رأسها ، ثم لفوها في قماش بلاستيكي ودفنوها بالحديقة على عمق متر ونصف ؛
- عثر خبراء الجريمة داخل الحفرة على شارة سقطت من أحد عمال الشركة…
وختمت القناة عناوينها بسؤال بارز:
“ هل سترتفع سومة الڤيلا أم ستنخفض ؟”