فاطمة الزياني
كنا نعود إلى قريتنا تلك المعلقة على سفح جبل حمام ، معلقة كطفل متمسك بظهر أمه ، كل صائفة نعود إليها . وكنا ننزل في بيتنا القديم ، المبني بالحجر والتراب . كان أسوأ ما فعله والدي أنه وافق على هدمه. هناك رأيت السرير الطيني لأول مرة ، وكيف كان عاليا قريبا من السقف. وقد رأيت سريرا مصنوعا من القصب عند جارتنا هناك . ما يزال لون بيت الضيوف موشوما في ذاكرتي. كان بيت الضيوف عبارة عن غرفة ببابين الأول مفتوح إلى خارج البيت والثاني مفتوح إلى داخله . ولها نوافذ صغيرة مأمنة بشبابيك من حديد. لا يمكن للزمن أن يمحي صورة ذلك البيت ولا تلك القرية بتفاصيلهما الصغيرة من مخيلتي. إنهما منحوتان داخلي .
أتذكر أننا كنا نلعب مع أطفال القرية قبل غروب الشمس لعبة غريبة بالأحذية . لم أعد أتذكر قانونها . لكني أتذكر تلك الكومة من الأحذية المرصوصة وأن أحدا كان يرمي بها الٱخرين ، والٱخرون يحاولون نيل فردات منها . لا أدري كيف أبدع أجدادنا هذه اللعبة . ربما لحرمانهم من شيء اسمه الحذاء . قد يكون اللعب طريقة لتجاوز المعاناة . لكن هيهات.
ويأتي المساء. تشعل أمي ضوء القنديل الغازي. ضوؤه خافت. من حين لٱخر تهزه. تتأكد من حركة الغاز داخل الخزان الصغير، فتهتز ظلالنا على الجدار المقابل لنا. كان الغاز مادة ذات قيمة. يقتنيه الناس من السوق الأسبوعي الذي كان يقام في مركز بني حذيفة …كنا نعود الى القرية بحنين جارف، لكننا نمل بسرعة. النهارات طويلة جدا. تبدأ قبل طلوع الشمس وتنتهي متأخرة. تظل الشمس عالقة هنالك عند الأفق. ترفض التدحرج الى حضن الغروب. كنت أجلس على تلة وأراقبها. لم يكن بوسعي أن أطرح أسئلة كبيرة، لكنني كنت أتواصل معها عبر مناجاة مليئة بالرجاء .
أين تذهبين
أيتها الشمس العظيمة
متى تطفئين لهيبك
متى وأين تقضين ليلتك
كيف ومع من ؟
أرجوك ، لا تسقطي
في حضن الغياب
كي لا يبتلعك …
وكنت أترجاها ألا تغيب حتى أرسمها في خيالي كما أريد. وقبل أن تنزل ترسم حدودا لتلك الرؤوس الجبلية المترامية … الكون بحاجة إلى من يكتشفه من وجهة نظر فنانين وشعراء. العلم لا يمتلك الغموض. ولا يؤمن بالسراب . العلم يقتل الجدلية بالحقيقة المطلقة، لكن الشعر والفن يحييان السؤال والفرضية والحلم.
تغرب الشمس. يخرج الظلام من مخبئه. يبتلع القرية وهياكل الجبال. يختفي كل شيء فجأة. أرمي بصري في اتجاه بلدتي بني حذيفة التي يحددها ضوء المصابيح المتلألئة . إنها هنالك بعيدة. بشوارعها الترابية ومنازلها الواطية والقليلة. يغمرني شوق إليها. ما يزال الشوق ذاته يمزقني إذا إبتعدت عنها. أتذكر ضحكات صديقاتي ولعبي البسيطة التي صنعتها بيدي. أبكي وأسارع الى البيت. يكون العشاء جاهزا وإبريق الشاي على النار. أتابع تلك الرغوة التي تشبه رغوة الصابون بمتعة. أتذكر القصص التي كانت تحكيها أمي لنا حين ينقطع الكهرباء. تقول أن البيوت المهجورة تستوطنها نساء غير ٱدميات. نساء جئن من عالم الغيب .ألتفت حولي. ثمة خشخشة أسمعها تفزعني. بيتنا في القرية كان قريبا من المقبرة. ذلك ما كان يزيدني خوفا وفزعا. سمعت كثيرا من القصص اللامنطقية عن الموتى وهم يستيقظون حين يموت أحد من أهل القرية، ليزفونه بالطبول والدفوف. بقيت هذه الفكرة في رأسي مشكلة عقدة في نفسي إلى الٱن. عندما يموت أحد ما أعرفه ينتاب إلى أذني صوت القرع على الطبول والدفوف. صوت يأتي من مكان بعيد جدا ، ويصلني كالحلم. أتخيل أن الأرواح تحف بالمكان. ترقص منتشية. أشعر بها تلامس وجهي. أرواح وقحة. تحول الجنازة الى زفة. الناس يبكون ألما وحزنا على فقيدهم، وهي ترقص فرحا وطربا ونشوة.
أقترب من أمي. أحتمي بجسدها. أشعر أن كل شيء يبتلع كل شيء.
جسد أمي
يبتلع جسدي
النار تبتلع الظلام
المقبرة تبتلع القرية
الشارع المترب
يبتلع الخطى
وأنا أبتلع ذاكرتي …