ذ.محمد العطلاتي
يظن بعض الناس ممن يحاول التفكير، أن العقائد الدينية نزعة فطرية طبيعية لدى الانسان و لا مجال لإنكارها أو تجاهلها، و هو لذلك، حسب هؤلاء، مرغم على اعتناق دين من الأديان أو عقيدة من العقائد، فلا يُتصوَّر، وفق ظنونهم، أن يوجد إنسان دون انتماء ديني، بل ذهب بعضهم إلى حد إنكار وجود ملحدين حقيقيين ممن لا يؤمنون بوجود الله.
في المقابل، ذهب الفلاسفة، ومن بينهم مؤسس علم الاجتماع، إلى نفي المطلق، واعتبار اللاهوت مجرد طور من أطوار التفكير البشري البدائي، ساد في سابق العصور قبل أن تليه المرحلة الميتافيزيقية ولتحل بعد ذلك، المرحلة العلمية، و هي المرحلة النهائية.
و على الرغم من أن الإسلام يُعدُّ دينا من الديانات القائمة، إلا أن معظم المسلمين يصرون على اعتباره دينا كونيا صالحا لكل زمان و مكان بل هو الدين الحقيقي، وهو، فضلا عن ذلك، بحسب اعتقادهم، دين يهتم بتنظيم حياة البشر في الدنيا الفانية، كما يهتم أيضا بتنظيم شؤون الآخرة الباقية، وهذا اعتقاد راسخ لدى غالبية مسلمي المجتمعات الإسلامية، حتى لو كان ذلك بشكلٍ غير عالِم، وهكذا انتهى محمد قطب في كتاب (جاهلية القرن العشرين) إلى الجزم بـأن ” … الدين تنظيم شامل للحياة يشمل اجتماعياتهم و اقتصادياتهم و سياستهم كما يشمل وجدانهم و عقيدتهم”
تأسيسا على هذا الاعتقاد السائد حول دور الإسلام في المجتمع، ظهرت في أوائل القرن العشرين حركة دعوية ذات بعد اجتماعي و سياسي سعت لتقديم إجابات حول تساؤلات مرتبطة بواقع المسلمين الذي انحدر نحو الانحطاط، وأخرى تتعلق بالأسباب التي أدت بهم إلى درجة من التخلف و الفساد لم يسبقها مثيل، و هي تساؤلات لا تستلزم الإجابة عنها، بالنسبة لمؤسسي هذه الحركة، فترة من التأمل والتقدير و حسن الإلمام بالموضوع، بل قدمت على الفور إجابة واحدة تتلخص في القول بأن تخلف المسلمين لم يكن ليحصل لولا ابتعادهم عن الإسلام، و قد كانت هذه الإجابة مقدمة و تمهيدا لوصف المجتمع الاسلامي بكونه قد ارتد إلى مرحلة الجاهلية، و أن لا سبيل لهذا المجتمع نحو الخلاص من تخلفه إلا بالعودة إلى طريق الإسلام !
الإجابة التي قدمتها هذه “الجماعات الدينية” حول سؤال التخلف و الانحطاط و إجمالها في العودة إلى الإسلام، لم يكن في واقع الأمر إلا شعارا دعائيا بليدا بدرجة كبيرة، لا تسنده حقائق العلم، و لا معطيات التاريخ، بل إن تمحيص هذه الإجابة المتهافتة فتح المجال واسعا أمام طرح أسئلة جديدة حول ماهية هذا الإسلام الذي تجب العودة إليه؟
تعتمد الأطروحات المتهافتة للجماعات الإسلامية على قراءة غبية للتاريخ الإسلامي، فهي تسعى جاهدة لتصوير مرحلة حكم الرسول لدولة المدينة الناشئة، ومن بعده الخلفاء الأربعة، باعتبارها مرحلة زاهرة من تاريخ الإسلام، مرحلة عرفت أعلى درجات سيادة العدل و المساواة و إقامة الوزن بالقسط، لكن الحقيقة مخالفة لادعاءاتهم، فهي مرحلة، كغيرها من مراحل تحول المجتمعات البشرية، تخضع لقوانين التطور المحكومة حتما بالصراع و التنافس، و إلا فكيف يستطيع هؤلاء الدعاة الحمقى نفي الجرائم المناقضة لأحكام الإسلام المنسوبة لقائد إسلامي مثل المدعو خالد بن الوليد؟ و كيف يستطيعون إنكار أن عمر بن الخطاب طالب الخليفة أبا بكرالصديق بإقامة حد الزنا على خالد بن الوليد؟ و كيف يفسر هؤلاء البلهاء الصراع الذي دار بسقيفة بني ساعدة بين أصحاب الرسول المبشرين بالجنة؟
إن الجماعات الإسلامية، بكل أصنافها و وعقائدها، تكتفي بترنيمة واحدة تزعم أن “العودة إلى الإسلام” هي الحل الوحيد لكل مآسي و تعثرات المسلمين، لكنها في المقابل لا تملك فكرة متكاملة حول كيفية تحقيق الخلاص من التخلف و لا عن مشروع مجتمعي واضح المعالم يشمل السياسة و الاقتصاد والثقافة و العلوم الحديثة التي تعرفها أمم العالم المتقدم، فكل رأسمالهم يتأسس على أن الإسلام هو الدين الحق و يتوجب على المؤمنين به فرض تعاليمه على بقية خلق الله !
إن مشكلة الإسلام، كما تبدو من خلال مراحل بنائه الأولى، أنه كان مشروعا امتزج فيه خطاب الدين بخطاب السياسة، بشكل لا نستطيع من خلاله تمييز حدود واضحة تخص الدين وحده، عن حدود أخرى تخص السياسة، فالرسول محمد، باعتباره صاحب المشروع، مارس السياسة و الدين معا في زمن واحد، كما شهدت بذلك مواقفه في معارك مثل معركة أُحُد، أو في محطات أخرى ترتبط بعلاقته مع طوائف اليهود و المسيحيين، حيث كانت المصلحة السياسية عاملا محددا في طبيعة هذه العلاقة و أنها كانت متأثرة بميزان القوة و الاقتصاد أكثر من تأثرها بشيء آخر .
هل تستطيع الجماعات الإسلامية، بمنطقها المتهافت،إقناعنا بأن الإسلام هو المشروع الديني الأصلح للبشرية؟ أم أن الأوان قد حان للإعلان بأن الإسلام كان مشروعا سياسيا ناجحا في فترة من فترات التاريخ، و أن الوضع الراهن، بموازين قوته الواضحة، لن يسمح بإعادة إنتاج تجربة ثانية للإسلام، كمشروع قائم على الغزو والفتح من أجل إقامة دولة إسلامية عالمية الأركان، تلك الدولة التي تحلم بفرض النقاب على نساء العالم بل و سبيهن و المتاجرة فيهن كأي بضاعة أخرى، دولة تحلم بفرض قانون الإسلام على الجميع أو أدائهم الجزية لبيت مالها و هم صاغرون في إنكار تام لنص قرآني يقول : “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟” ألا يعكس هذا الوضع الغارق في الماضوية بإفراط أزمة حقيقية في جذور الفكر السياسي الإسلامي ؟