رغم أن علم الفلسفة لم يكن له الحظوة فى بعض الثقافات، قديماً وحديثا، حتى أن البعض يعتبره مجرد علم للكلام الذى لا يصلح للواقع، إلا أن الفلسفة حتى وإن لم يدرك الكثيرين ذلك، هى المحرك الفكري لحياة البشر فى جميع مناحيها. وهذا ما أكد عليه الكاتب والفيلسوف البريطاني ديفيد أدموندز، الذى خص مجلة”حرف” بحوار حصري تحدث فيه عن أحدث أعماله خصوصا وعن الفلسفة عموماً.
من المعروف أن البروفيسور”ديفيد إدموندز” ليس فقط مؤلفًا للعديد من الكتب التي أثرت في عالم الفلسفة، ولكنه أيضًا مذيع فى واحدة من أكثر البودكاست الفلسفية شهرةً في العالم،Philosophy Bites سنستكشف اليوم معًا رؤاه حول موضوعات متنوعة، بدءًا من الأخلاق وحتى تأثير الفلسفة على حياتنا اليومية.
_فى البداية أود أن أطرح سؤالاً يثقل كاهلي وكثيرين آخرين من الأجيال الشابة، هل لا يزال للفلسفة مكان في عالمنا اليوم؟ وأعني بالفلسفة بحسب فهمي كشخص عادي على أنها علم الحكمة، هل تؤمن كفيلسوف أن للحكمة مكانا في عالم غارق في الفوضى والحروب والدمار، فى كوكب يقترب بشكل أساسي من نهايته؟
لا يحتكر الفلاسفة أي حكمة أو بصيرة، ولكن نعم، دائما ما كان وسيكون للفلسفة دور مهم. وهناك بعض المجتمعات التى تقيّم دور الفلاسفة أكثر من غيرها. فعلى سبيل المثال، وبحسب اعتقادي فإن الفلاسفة الفرنسيون يتمتعون بتقدير أكبر في فرنسا مقارنة ببريطانيا.
والفلسفة تأتي في أشكال عديدة. فهناك مجالات أكاديمية للفلسفة لكنها ليست بالأهمية الكبيرة لعامة الناس. ورغم ذلك، لدى الفلسفة الكثير لتسهم به فى القضايا الأخلاقية والسياسية الملحة. فالطريقة التي نفكر بها في القيم التي تشغلنا، مثل الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة، شكلها الفلاسفة أصلا. وكذلك مسألة ما إذا كان من الممكن تبرير الحرب وكيفية هذا التبرير كان قد صاغها الفلاسفة بالمثل. حتى موضوع كيفية التفكير في البيئة، هذا أيضًا شكّله الفلاسفة.
_كتابك الأخير بعنوان”بارفيت” والصادر فى العام2023، كتاب السيرة الذاتية عن الفيلسوف المعاصر”دريك بارفيت” حدّثنا عن الكتاب، ولماذا أخترت بارفيت بالتحديد؟
دائما ماكان إرث”بارفيت” محل نزاع، لكن الكثير من الفلاسفة الجادين يعتبرون أن”دريك بارفيت” فيلسوف أكسفورد، واحداً من أهم فلاسفة الأخلاق فى القرن الماضي. وهذا سبباً لو لم يكن غيره من أسباب فهو يكفي لأن أكتب سيرته الذاتية. لكن ما ساعدني ودفعنى أكثر لكتابة هذه السيرة هو أنى عرفت”بارفيت” بشكل مباشر. فقد كان مشرفًا على أبحاثي عندما كنت في مرحلة الدراسات العليا. وبعد ذلك، عندما كتبت رسالة الدكتوراه، كنت تحت إشراف جانيت رادكليف ريتشاردز التى صارت زوجته فيما بعد.
ظاهرياً، كانت حياة بارفيت مملة للغاية. فقد أمضى جُل وقته في كلية أول سولز بأكسفورد، يقرأ ويكتب. لكن لحسن الحظ، بالنسبة لي ككاتب سيرته، أعتبرته رجلاً مثيرًا للاهتمام وغريب الأطوار بشكل ملحوظ.
كل الذين عرفوه، كانت لديهم حكايات يرونها عنه. على سبيل المثال، وقف ذات مرة فى وسط ندوة، وأنزل بنظاله فقط لأنه يشعر بالحَر. لكن بارفيت، كتب وبحث فى قضايا مدهشة. ككتابته عن مسألة”ما ندين به للبشر الذين سيأتون فى المستقبل، للأشخاص الذين لم يولدوا بعد”. وناقش أيضا مسألة مهمة تسمي”الهوية الشخصية” مضمونها عن ما الذي يجعلني أنا ديفيد إدموندز الأن، إن كان هناك أي شيء صرت عليه، هو نفس الشخص الذي كنت عليه عندما كنت طفلاً، أو نفس الشخص الحالي هو الذي سأكون عليه بعد 5 سنوات.
_فى الحقيقة ما عرّفني على الفيلسوف”ديفيد إدموندز” كتاب بعنوان”هل ستقتل الرجل السمين؟” ولم أكن اعرف من قبل مدى صعوبة الاجابة عن هكذا سؤال، وفى الحقيقة جعلني الكتاب اتسائل ولازلت اسأل نفسي هل سأقتل الرجل السمين لو كان لي الاختيار؟ فهل أجابات الناس ومواقفهم من هذا السؤال”هل سيقتلون الرجل السمين؟” تختلف بإختلاف أديانهم وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية وعاداتهم وتقاليدهم؟
ظهرت معضلة”العربة” الأصلية في عام 1967. وهذه المعضلة صيغت على النحو التالي، تخيل قطارًا مسرعاً يتجه نحو خمسة أشخاص مقيدين على قضبان ذاك القطار، إذا لم تفعل شيئًا، سيقتل القطار الخمسة جميعًا. والحل الوحيد للإبقاء على حيواتهم هو سحب الرافعة التي ستغيّر مسار القطار إلى مسار جانبي. لكن لسوء الحظ، هناك شخص واحد مقيد على هذا القضبان الجانبي. إذا قمت بسحب الرافعة، سيغير القطار اتجاهه وسيقتل هذا الشخص. فماذا عليك أن تفعل؟
وفي وقت لاحق، في عام 1986، تصور فيلسوف آخر حالة مختلفة قليلا. القطار السريع سوف يقتل خمسة أشخاص كما كان من قبل. وأنت تقف على جسر للمشاة تشاهد ما يحدث ويقف بجوارك رجل ضخم جدًا. وبإمكانك دفع الرجل الضخم من فوق جسر المشاة والذى بدوره سيتدحرج حتى الموت، لكن ولأنه سمين جدًا، فإنه سيحجز القطار ويمنعه من قتل الخمسة. ماذا عليك ان تفعل؟
هذا هو اللغز. في الحالة الأولى، يعتقد الجميع تقريبًا أنه يجب عليك تغير مسار القطار ذو الرافعة. لكن في الحالة الثانية، لا يعتقد أحد تقريبًا أنه يجب عليك دفع الرجل السمين إلى موته المحقق. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، أنت تقتل واحدًا لتنقذ خمسة. فلماذا، ما الفرق؟
_بماذا كنت ستجيب على السؤال نفسه، هل سيقتل ديفيد ادموندز الرجل السمين؟
أعتقد أن معظم الناس على حق. فيُعد سحب الرافعة فى الحالة الاولى تصرف صحيح. وكذلك يُعتبر عدم دفع الرجل السمين من فوق جسر المشاة أمام القطار أختياراً صائب. وأنا أشرح الأسباب في الكتاب.
ومعضلة العربة هذه ذات صلة بالعديد من مجالات الحياة، بما في ذلك إدارة الحرب. والحقيقة أن كل الضباط المستقبليين في جيش الولايات المتحدة يتعلمون كيفية التعامل مع مشكلة العربات.
_بالتأكيد تتابع التطور الهائل والمتسارع للذكاء الاصطناعي، برأيك ما هى التحديات الاخلاقية التى يمكن أن تظهر فى المستقبل القريب والبعيد بعد كل هذه الاكتشافات التكنولوجية الكبيرة، وما هى التحديات الفلسفية التى تفرضها مثل هذه الاكتشافات؟ وماهى المخاوف أيضا التى ستتبع ذلك؟
نعم، أنا مهتم جدًا بالذكاء الاصطناعي. في الواقع، أنا حاليا فى مرحلة إنهاء كتاب عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وكيف سيؤثر على كل مجال من مجالات حياتنا، بطرق دراماتيكية جداً. على سبيل المثال فيما يتعلق بالوظائف التى يؤديها البشر حاليا والتى لن تكون بالضرورة نفسها فيما بعد، لأن الذكاء الاصطناعي سوف يؤديها بشكل أفضل وأقل تكلفة.
وبالمثل سوف يثير الذكاء الاصطناعي العديد من المشكلات الفلسفية. مثلا، كيف سنفكر كبشر فى الأسلحة المستقلة، التى ستمتلك بعضا من الإرادة الحرة؟ هل يجب أن نقلق من فكرة أن نصير يوما كبشر عديمي المهارات؟ هل سيميز الذكاء الاصطناعي ضد بعض الجماعات دون غيرها؟ هل يجب علينا القلق من تلك الطريقة التى تعمل بها أنظمة التوصية بالذكاء الاصطناعي، مثل التوصية بمقالات الصحف والموسيقى والكتب وما إلى ذلك؟ ما هي الآثار المترتبة على استقلالية الإنسان وحريته؟ هل سيكون من المنطقي في المستقبل أن نقول إن أجهزة الكمبيوتر واعية وتستحق الحقوق؟
_هل درست الفلسفة من حضارات الشرق الأوسط القديمة؟ ومن كان له التأثير الأكبر على فهمك الفلسفي؟
للأسف أنا لم أتعرّف سوى على القليل جدًا عن فلاسفة الشرق الأوسط (على الرغم من أن والدتي ولدت ونشأت في مصر!)الفيلسوف الشرق أوسطي الوحيد الذي أعرف عنه القليل هو”ابن سينا” الذي يربط، من خلال دراسته لأرسطو، بين التقاليد الفلسفية الغربية والشرق أوسطية.
_كيف يمكن للفلسفة أن تساهم في حل المشاكل اليومية؟ وأنا أتحدث عن حلول يمكن للناس العاديين، وليس الأكاديميين المتخصصين، تطبيقها.
شئنا أم أبينا، لكن الفلسفة هى ما شكّل عالمنا. كارل ماركس، جون لوك، جون ستيوارت ميل، هؤلاء الفلاسفة إلى جانب فلاسفة آخرين، غيروا حياة “الناس العاديين”، سواء سمع الناس العاديون عنهم أم لا.
الفلسفة ليست كالعلوم. فالنظريات العلمية يمكن اختبارها وإثبات خطأها. أما الفلسفة ليست مفتوحة لنفس النوع من البحث التجريبي. ومع ذلك، فإن الفلاسفة مفيدون بعدة طرق. فالفلسفة تساعدنا على أن نكون واضحين في لغتنا، في اكتشاف الادعاءات المبهمة ومساعدتنا على أستهجان الحديث التافه، والسياسيون مذنبون بشكل خاص فى هذه النقطة الاخيرة. يتمتع الفلاسفة أيضًا بمهارات منطقية دقيقة، لذلك هم قادرون على الاشارة إلى الأخطاء والتناقضات في الحجج والبراهين. وهو الأمر المفيد في كل نقاش، سواء كان يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الدين.
تجدر الإشارة إلى أن”ديفيد إدموندز” آلّف حوالي أربعة عشر كتاباً. آخرها كتاب السيرة الذاتية”بارفيت” الصادر منذ عدة أشهر، بالاضافة إلى كتب مثل”هل ستقتل الرجل السمين؟، وكتاب بوكر فيتجنشتاين، وكتاب مقتل البروفيسور شليك: صعود وسقوط دائرة فيينا، وكتاب بوبي فيشر يذهب إلى الحرب”.
وبجانب الكتابة وتدريس الفلسفة، يعمل ديفيد إدموندز كمقدم برامج فى هيئة الإذاعة البريطانية والتى حصل منها على العديد من الجوائز.