عبد اللطيف مجدوب
مقاربة الموضوع
منهجيا ؛ يصعب مقاربة موضوع ؛ بهذه الحمولة المعرفية ؛ التي يتداخل فيها الموضوعي بالغيبي الذي لا تطاله حواس الإنسان ، إذا سلمنا بقصور العقل البشري عن إدراك فيزياء معايير ومقادير زمنية ؛ وردت في النصوص القرآنية والأحاديثية ؛ تارة بوحدات زمنية موضوعاتية ؛ أحياناً تصريحية ، كاليوم والسنة والليلة والحول والعام والحجة ، وأحيانا أخرى تلميحية بجزء من الثانية ﴿كلمح البصر أو هو أقرب﴾ ؛ ﴿قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ .. أو تقديرية ، كأجزاء من النهار والليل ؛ {والليل إذا غسق} ؛ {والصبح إذا تنفس﴾ ؛ ﴿والليل إذا عسعس﴾ .
هذه التقويمات الزمنية ؛ في كل أبعادها الكونية المطلقة ، والحركية القابلة للقياس ؛ تشهد على عظمة الخالق أولا ورحمته في تدبير شؤون عباده ، وهي ؛ في آن واحد ؛ جاءت تيسيرا للعبادات والمعاملات ، وتعاقب مواسم الحج والصيام والزكاة ، ومراحل الفطام والفصام والفصال والعدة.. ﴿وفصاله في عامين﴾ ؛
والإسلام ؛ في أصوله وعباداته ؛ أولى أهمية قصوى لعامل الزمن ، على النقيض مما اشتهرت به الديانات السماوية الأخرى التي حصرت هذا المفهوم في مقاييس محدودة ؛ كالساعة واليوم والسنة ، بينما الإسلام تجاوزها إلى مفاهيم زمنية أكثر تحديدا ودقة كلمح البصر؛ وطرفة عين ؛ وأدق حصرا ، كجاء عشية ، ﴿بكرة وأصيلا﴾ ، وجاء عصرا ، وزوالا ، وطلوع الفجر ، والغسق ، بل ولعظمة جلاله وقدرته أقسم بها في سياقات قرآنية عديدة ؛ { والضحى} ؛ {والعصر} ؛ ﴿والفجر وليال عشر﴾ ؛ ﴿والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى﴾؛ ﴿والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر..﴾ ؛ ﴿فلا أقسم بواقع النجوم…الآية﴾75 الواقعة …
فالساعة ؛ مثلا وردت بمعنى يوم القيامة ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾1 القمر ، ثم كلمح البصر ﴿وما أمر الساعة إلا كلمح البصر ﴾77 النحل، في قيامها ، والحساب الذي يعقبها ، ثم إن هناك السنة والعام والحول والحجة بمدلول يختلف تبعا لسياق كل آية ، وأسباب النزول ، فالسنة ، ترد مقترنة بالشدة والجدب ، بينما العام يرد بالوفرة والرخاء ، كما نستدل به من خلال سياق الآيات ؛ ﴿ولقد أرسلنا نوحا… ظالمون ﴾59 اعراف ؛ ﴿قال إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.. الفاسقين ﴾26المائدة ، وفي حالة الرخاء يعبر عنها بالعام ؛ ﴿ثم يأتي من بعد ذلك عام.. يعصرون ﴾ 49 يوسف .
الزمن النسبي
سنقتصر ؛ في هذا المبحث ؛ على إيراد قصة أهل الكهف ، لما لها من دلالة في تقدير الزمن من حيزين متناقضين: حيز نوم الفتيان ، وما واكبه من تعطل الحواس ، وحيز الواقع ، عند يقظتهم أو ما شهد به النص القرآني ؛ ﴿لبثنا يوما أو بعض يوم..﴾ 113 المؤمنون، ﴿ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا.﴾25 الكهف ، وهذا يشير بوضوح إلى أن زمن أهل القبور والموتى أقصر بكثير من زمن سطح أرض (الدنيا) ، بنسبة لا يمكن للعقل البشري تحديدها ، ولو أن النص القرآني ؛ كما جاء في قصة فتيان (أهل الكهف) يؤشر على ﴿يوماً أو بعض يوم ﴾ ؛ حالة النوم ، وكلمة “البعض” في تقدير اللغة العربية ، تنحصر ما بين 3 ؛ 4 بما يعني في “اعتقاد” الفتية عند يقظتهم أنهم لبثوا فقط أربعا وعشرين ساعة أو بعضا منها ؛ أي ما بين (15س و 20س) ، إلا أن واقعها ؛ في حالة اليقظة وكما دل عليه النص القرآني ؛ يمتد إلى 309 سنة ، أي أن 1ساعة واحدة (في باطن الأرض) تعادل بالتقريب ستة أيام ونصف اليوم على السطح ، في حالة “أهل الكهف” ؛ ﴿فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ﴾11 الكهف ، وضربنا على آذانهم ؛ عند معظم المفسرين ؛ لا يعني ﴿فأماته﴾ ، فالضرب على الأذن يعني منعها من نفوذ الأصوات حتى لا ينتبه النائم ، بخلاف ﴿فأماته﴾ التي تعني تعطيل جميع الحواس ، بما فيها السمع.
أنماط زمنية فارقة
الذكر الحكيم يحبل بأنماط زمنية متفاوتة في الطول والقصر ، فضلاً عن مواقيت مرتبطة بالشمس ؛ تارة والعصر والمغرب والعشي تارة أخرى ، يعبر عنها “قريب” ، “بعيدا” ؛، “قليلاً” ، لمحة بصر ، وهي دون ،”طرفة عين” في المدى الزمني ، وكلاهما يتحدد في بضعة ثوان أو أقل ، وقد أمكن للإنسان اليوم تجزيء الثانية الواحدة إلى فيمتوسيكوند Femtosecond وتعادل جزء من كوادريليون من الثانية الواحدة ، تستخدم في دراسة التفاعلات الكيميائية والبيولوجية . ثم Attosecond أتوسيكوند ، وتمثل 1 من كويليوم من الثانية ، تستخدم في دراسة حركة الإلكترونيات داخل الذرات ، كما أشار أحدهم على الملك سليمان ، حينما قال: ﴿أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك﴾40 النمل ، يقصد “عرش الملكة بلقيس” ، ومعلوم أن تقدير الشقة/المسافة بين مملكتي بلقيس وسليمان ، حصرتها بعض الروايات في آلاف الكيلومترات ، باعتبار أن جغرافية مملكة بلقيس ؛ سواء أكانت في إثيوبيا أو سلطة عمان أو اليمن ؛ كانت تبعد عن فلسطين/القدس ، أو بالأحرى مملكة الملك سليمان ببضعة آلاف الكيلومترات ، ما يعني “سرعة” خديم الملك سليمان كانت تقارب سرعة الضوء ؛ ﴿قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ ؛ أي أقل من ثانية زمنية.
كما أن هناك “مقادير زمنية” ؛ يصرح بها النص القرآني ، حينما يتعلق الأمر بحيز خارج عن نطاق الفيزياء الحركية ، أو بعبارة الزمن الكوني المطلق ، مثلما تنص عليه الآيات: ﴿في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون﴾4 السجدة، ﴿تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾4 المعارج.
زمن الإسراء والمعراج
“سار وأسرى” ؛ في لغة العرب؛ بمعنى سار في أول الليل ، وهو المشهور ، بدليل الحديث الشريف: {كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّا أَسْرَيْنَا، حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ…}
فكان الإسراء من مكة إلى بيت المقدس ، ومن ثم العروج إلى السماوات العلا ، وتقدر المسافة بين مكة والقدس ب 1500 كلم ، تزيد أو تنقص بحسب تعدد الطرق والمسالك إليهما (من وإلى مكة والقدس) ، هذه المسافة تم اجتياها ؛ تبعا للنص القرآني ؛ في زمن أقل من ليلة ؛ والليلة تقدر ما بين مغرب الشمس وطلوعها ، بمعدل 12,30 ساعة ، بل الزمن الذي اسغرقته هذه الرحلة ذهابا وإيابا ؛ على طول مراحلها وأطوارها ؛ لم تتجاوز بضعة ثوان على متن البراق ، في حين كان التجار يجتازونها في مسيرة شهر ، ناهيك عن المسافة الزمنية التي قد يكون الرسول قطعها على متن البراق في عروجه للسماوات العلا ، فالعقل البشري عاجز عن تصورها في مليارات المليارات من السنوات الضوئية ، لكنها تلخصت في بضعة ثوان ، حتى أن الرسول ﷺحينما عاد إلى فراشه وتحسسه فوجده ما زال دافئا ، وكأنه لم يغادره مطلقا.
والدابة التي امتطاها الرسول ؛ عند معظم أهل التفسير ، وعلى رأسهم القرطبي ؛ دابة بيضاء ، سبق لبعض الأنبياء أن ركبوها في عروجهم إلى السماوات العلا ، والبراق كلمة مشتقة من فعل “برق”، والبرق في لمعانه وسرعته ، حتى بات محل تمثيل للسرعة الكبيرة الخارقة ، كأن نقول : “مر بسرعة البرق” ، ويوجد حتى الآن حائط غربي بجوار المسجد الأقصى ؛ يحمل “إسم حائط البراق” ، قيل إن الرسول ﷺربط عنده دابة البراق. كما أن سرعته ، تبعا لرحلة الإسراء والمعراج ؛ تتضاءل أمامها سرعة الضوء ، بعضهم حددها بالتقريب في أكثرمن 400كلم/ث . وأن عبورها يحمل دلالة كبيرة ، ترمي في بعض أبعادها إلى حمل أهل قريش على الاقتناع وترسيخ الرسالة السماوية بما حوته من تشريعات في نفوس المؤمنين ، بمن فيهم الأقوياء والضعفاء ، وهي تعد ؛ برأي جمهرة المفسرين ورواة الحديث ؛ من أعظم المعجزات الإلهية التي خص بها الله نبيه سيدنا محمد ﷺ ، حينما استطاعأن يروي لقومه ما شاهده ووصفه في رحلته السماوية ، سواء إلى المسجد الأقصى أو عروجه إلى السماوات السبع ، ومن ثم الملكوت الأعلى.
دلالات الزمن في القصة
الانتقال الفوري: تتميز القصة بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم بين الأماكن البعيدة في لحظة واحدة، مما يشير إلى تجاوز الزمن المادي المعتاد.
- اللقاء بالأنبياء: لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء السابقين في رحلته يشير إلى أن الزمن الروحي يختلف عن الزمن المادي، حيث يتجاوز حدود المكان والزمان.
- السماوات السبع: صعود النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع يرمز إلى رحلة في أبعاد الزمن الكوني، حيث يتعرف على أسرار الكون وخالق الكون.
- نور الله: الوصول إلى السماء الأعلى “واللقاء” بالله تعالى هو تتويج لهذه الرحلة الزمنية، حيث يتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم حدود الزمن والمكان ليصل إلى الحقيقة المطلقة.
- التغيرات الروحية: الرحلة الروحية التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم أدت إلى تغييرات جوهرية في نفسيته ووعيه، مما يشير إلى أن الزمن النفسي هو زمن التغيير والتطور.
- التقرب من الله: القصة تبرز أهمية التقرب من الله تعالى كوسيلة لتجاوز حدود الزمن المادي والوصول إلى الحقيقة المطلقة.
علاقة القصة بدلالات الزمن في القرآن
- القرآن ككتاب زمان ومكان: يعتبر القرآن الكريم كتاباً شاملاً لكل زمان ومكان، حيث يتناول قضايا الإنسان على مر العصور.
- الزمن في القرآن: يذكر القرآن الكريم الزمن بأشكال مختلفة، كاليوم والليل والساعة واللحظة، ولكنه يشير أيضاً إلى زمن أبدي لا نهاية له.
- الزمن كأحد أسماء الله الحسنى: يعتبر الزمن من أسماء الله الحسنى، مما يؤكد أهميته في الفكر الإسلامي، “القريب” ؛ “البعيد” ؛ “السميع” ؛ “العليم” ..﴿ وهو معكم أينما كنتم ﴾4 الحديد .
ختاما
تعتبر قصة الإسراء والمعراج من أبرز الأحداث في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي تحمل في طياتها دلالات عميقة حول الزمن ومفهومه في القرآن الكريم. تعد هذه القصة رحلة روحانية زمنية فريدة، حيث انتقل النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم إلى السماوات العلا، وهي رحلة تتجاوز حدود الزمن والمكان المألوفين.