محمد كرم
قبل شهور معدودة قام مؤثر معروف و مشهود له بغيرته على مدينته و وطنه بتوجيه سهامه إلى شخص السيد عبد اللطيف وهبي فكان من الطبيعي أن ينبري هذا الأخير للدفاع عن نفسه بجزء أو بكل الصفات التي يحملها على الرغم من تصريحه في إحدى المناسبات بأن من يرغب في حمل حقيبة وزارية عليه أن يقبل النقد بل و حتى تحمل الإهانة أحيانا. و بغض النظر عن جزئيات الواقعة فإن أهم ما لفت نظري فيها هو أن معالي وزير العدل لم يستغل منصبه الرفيع للانتقام من الرامي بطريقة استبدادية أو كيدية بل قام ـ و بشكل حضاري و كأي مواطن متضرر و مقتنع بأن مفاتيح السجون لا تدار من قبل وزير أو سفير أو مدير أو خبير بل تدار بالقانون و أفعال المدانين ـ برفع دعوى قضائية ضد المؤثر إياه بسبب ما اعتبره تشهيرا في حقه و سلك في ذلك المساطر المعمول بها لتتوج هذه المعركة القضائية بصدور حكم ابتدائي قضى بحبس الناشط و تلاه حكم استئنافي أكد ثبوت التهمة و رفع من مدة العقوبة الحبسية.
أعتقد أن هذه النازلة تنطوي على درس و استنتاج.
فأما الدرس فهو أن السياسة تجابه بالسياسة أو بالتحليل الصحفي أو الأكاديمي الهادئ و الرصين و الراقي و ليس بالتسمر أمام شاشة الهاتف و الضغط على زر و اعتماد أسلوب “غير جيب يا فم و قول”. الرجل منغمس في اللعبة الديموقراطية حتى الأذنين. أليس الناخبون هم من أوصلوا حزبه إلى مراكز القرار ؟ أليس من حقه كمسؤول سياسي و عضو حكومي سبق له أن خبر ما يدور بردهات المحاكم لسنين طويلة أن يخوض في التنظير القانوني ؟
ما من شك في أن مدير دفة وزارة العدل الحالي في وضع يسمح له بتقييم الأشياء و رصد الاختلالات و الثغرات التي تعرفها المنظومة القضائية مع إمكانية وضع تصور للحلول الممكنة لتجاوزها، كما أنه من حقه أيضا أن يعبر عن قناعاته مهما كانت طبيعتها و مهما كان مصدر استلهامها، و من البديهي طبعا أن تخضع اجتهاداته للنقاش على أكثر من مستوى و أن تحظى في النهاية بالقبول أو تجابه بالرفض جزئيا أو كليا (و حتى إذا لم يحظ أي من اقتراحاته بمصادقة باقي الشركاء فإن التاريخ سيشهد له على الأقل على دوره البارز في تنشيط العمل الحكومي من خلال خرجاته الإعلامية المثيرة للجدل و تحريكه للمياه الراكدة و مواجهته للتيارات المعاكسة)، و من البديهي أيضا أن تصدر منه زلات بين الفينة و الأخرى ذلك أن الوحيد الذي لا يخطئ أبدا هو ذلك الذي لا يفعل شيئا…. و من يرغب في التعليق على بنات أفكاره باستعمال أية وسيلة من الوسائل المتاحة فله ذلك و لكن في حدود اللياقة و الأدب، و من يرغب في محاربتها و الحيلولة دون ترجمتها على أرض الواقع فما عليه إلا أن يلج معترك السياسة هو الآخر و ينخرط بوجه مكشوف في النقاش السياسي الدائر. إنك عندما تناضل قد تفلح و قد لا تفلح، و لكن عندما لا تناضل فأنت خسران منذ البداية . من هنا تأتي أهمية الانخراط في السياسة و لو بالاكتفاء بالتصويت في زمن الاستحقاقات الانتخابية المتنوعة … و ذلك أضعف الإيمان.
إن ذنب السيد وهبي الوحيد في اعتقادي هو أنه اختار ولوج السياسة من بابها الواسع في حين أن معظم مناوئيه من غير السياسيين المتحزبين فضلوا البقاء في الظل، و عندما أدركوا على نحو متأخر بأنه في مجال تدبير الشأن العام إما أن تكون فاعلا أو مفعولا به ثارت ثائرتهم و شرعوا في قصفه بكل الأسلحة المتوفرة إلى حد المس بشخصه و كرامته أحيانا.
أما الاستنتاج فهو أن الوزير المعني لا ينتمي إلى دولة شمولية بوليسية لا تتردد في تصفية الخصوم مع التفنن في ذلك. التوقيف اليوم يكون بالقانون، و السجن يكون بالقانون، و استعادة الحرية تكون بالقانون. لقد ولى زمن الشطط في استعمال السلطة و أضحت حرية التعبير مكفولة للجميع، و هذا معطى لا يحتاج إلى دليل. يجب فقط ممارسة هذا الحق بشكل مناسب و معقول و مسؤول لتفادي الوقوع في المحظور من قبيل بث ادعاءات و وقائع كاذبة و المس بالمقدسات المعروفة و بالحياة الخاصة للأشخاص و التحريض على الكراهية و كيل الشتائم المجانية و تلفيق التهم يشكل عشوائي و الإضرار بسمعة الناس و شرفهم و أعراضهم. حرية التعبير تجيز لك تقييم و انتقاد أداء المسؤولين لكنها لا تمنحك الحق في بهدلتهم و الحط من إنسانيتهم.
لقد أفضت الثورة الحقوقية التي عرفتها المملكة في العقود الأخيرة إلى نتائج مذهلة، و هذه حقيقة لا ينكرها إلا جاحد. فمثلا من النادر أن نسمع اليوم بحالة تعذيب حتى في صفوف من ثبت تطاولهم على مؤسسات الدولة أو تأكد تخطيطهم لتخريب البلاد أو زرع بذور الفرقة بين مكوناتها، و لا أعتقد بأنه ثمة اليوم ما يمكن اعتباره محاكمات صورية أو مضايقات مجانية، و حتى إذا ما حصل شيء من هذا القبيل فإنه يحسب ضمن الاستثناءات التي تؤكد القاعدة. المؤسسات الأمنية ـ و التي خضع عملها لتقييد ملموس فرضته القوانين الجديدة ما جعلها تفقد الكثير من هامش الحرية و المناورة الذي كانت تتمتع به سابقا ـ لا تتحرك اليوم و لا تتجاوز حدود الاشتباه إلا في وجود الأدلة البينة أو تلك التي توفرها لها المصالح العلمية المسلحة بتقنيات البحث الجنائي الحديثة و المتطورة و لا تتدخل في شؤون المواطنين إلا في وجود ما يبرر ذلك. أما الدقة التي تشتغل بها المحاكم فتستحق التنويه فعلا. كل شيء موثق خطيا و إلكترونيا ، و كل ملف برقم و مستندات و كل حكم برقم و تاريخ و كل قرار برقم و تبرير ، و معظم الإجراءات المسطرية خضعت و بنجاح للرقمنة ما زاد من حجم الشفافية و من قيمة الأداء المهني و سهل على المتقاضين عملية تتبع ملفاتهم.
كل المؤشرات تعطي الانطباع بأننا قطعنا شوطا طويلا على درب بناء دولة الحق و القانون بغض النظر عن مدى صواب اختيارات الدولة و توجهاتها العامة و بصرف النظر كذلك عن أخطائها و انزلاقاتها. هذا هو واقع الحال، و من يرفض تصديق هذا الكلام و يلح على أن البلاد برمتها مازالت تحت تصرف متنفذين من مختلف المشارب يصنعون بها و بأهلها ما يشاءون ما عليه إلا أن يقيم دعوى قضائية من أي نوع ليكتشف بأم عينه بأنه فعلا ما ضاع حق وراءه طالب و بأن محاكمنا تقوم بعمل جبار و بأنه على الرغم من ضخامة حجم الملفات المعروضة أمام القضاء لا شيء يتعرض للإهمال و لا شيء يطاله الضياع و آجال المعالجة محترمة على العموم بقوة القانون. ما لا يمكن نفيه ـ و هذا أمر لا تسلم منه حتى أكثر الدول تقدما و ديموقراطية ـ هو استمرار وجود شرذمة من عديمي الضمير هوايتهم المفضلة هي عرقلة مسار العدالة دون أن تكون لديهم القدرة على إلغائها، و لعل وجود شخصيات خدمت الدولة سابقا و من أعلى المواقع وراء القضبان اليوم دليل على أن القانون مثل الموت بحيث يسري على الجميع… على الأقل نظريا.
لا داعي إذن للتشكيك في التزامنا بمسايرة التطورات المتسارعة التي يشهدها مجال حقوق الإنسان في أبعادها السياسية و النقابية و الثقافية و الفكرية و المعنوية على الصعيد العالمي. مشاكلنا العالقة ليست ذات طابع حقوقي على الإطلاق. حتى الكلاب الضالة لها حظها اليوم من الحقوق بحيث أصبحت تتعايش بشوارع و أزقة مدننا مع الكائنات شبه الضالة و المخلوقات غير الضالة و لم يعد يميزها عن أبقار الهندوس سوى واجب التقديس.
لكن لماذا مازالت قوات مكافحة الشغب ماضية في كسر عظام مشاغبي الملاعب و المحتجين و المعتصمين و المتظاهرين بالشارع العام ؟
إنه واجب استتباب الأمن الذي لم يثبت أبدا تحقيقه بالعناق أو بوضع القبل على الخدود أو بتوزيع الورود و الحلويات و المشروبات حتى في هوليود و موناكو و سيدني و داخل الحرم المكي.
ختاما، أجدني مضطرا إلى لفت الانتباه إلى أن هذه المقالة لا تروم في جزئها الأول الانحياز لجهة على حساب جهة أخرى أو دعم مقاربة سياسية على حساب مقاربة أو مقاربات أخرى، بل هي مجرد تذكير بواحد من أهم مبادئ التناوب الديموقراطي و المتمثل في ضرورة منح الفرصة لمن اختارهم الشعب لتنزيل رؤيتهم للتدبير و الإصلاح في انتظار أن تفرز صناديق الاقتراع بعد انتهاء ولايتهم إسم كتلة سياسية حاكمة جديدة بوعود جديدة و رؤية جديدة و برنامج جديد. و بالمناسبة، لابد من التذكير أيضا بأن العملية الانتخابية من الخطورة بمكان، و تخلف العديد من البالغين الراشدين عن الانخراط فيها هو بكل تأكيد خطأ فادح.