محمد عصام
استقبل رواد التواصل الاجتماعي وعموم المتتبعين، ما وقع في أمستردام قبل يومين على إثر مباراة في كرة القدم بين فريق هولندي وآخر من الكيان الصهيوني، بتنويه كبير وحفاوة عز لها نظير، وكانت الجالية المغربية بهولندا في صلب هذا الحدث بل فاعلا أساسيا فيه، ولهذا كان حظ المغاربة وافرا وكبيرا في حجم الترحيب والتنويه، بل إن الناشطين الفلسطينيين أنفسهم في غزة المجروحة، خصصوا لواقعة أمستردام وللمغاربة فيديوهات كثيفة كلها تنطق بالاعتزاز والفخر لشهامة المغاربة وشجاعتهم وأصالتهم وارتباطهم بقضايا الأمة، والاستعداد للدفاع عنها مهما كلف الأمر.
بطبيعة الحال هذه الواقعة لن تعجب “حلف كلنا إسرائيليون” الذي ولد وترعرع ونما بيننا بدعم من الصهيونية العالمية وبتمويل ورعاية منها، وهذا طبيعي جدا، فهؤلاء قلوبهم مع بني صهيون وسيوفهم علينا وعلى أصالتنا وقيمنا وارتباطنا بمقدساتنا، وعليه فإن ما أنجزه مغاربة أمستردام وبطبيعة الحال معهم الجاليات العربية والمسلمة هناك، هو في الحقيقة هزيمة أخرى، وليست أي هزيمة، لحلف “كلنا إسرائيليون”، هزيمة مبناها ومعناها يقولان شيئا واحدا: إن حفدة المجاهدين الذين حرروا القدس مع صلاح الدين وأسكنهم جوار المسجد الأقصى، لم ولن يتغير فيهم شيء أبدا، وأن كل الجعجعة التطبيعية والهرولة للسقوط في أحضان الصهينة والتصهين، سراب ووهم كبير ، لا محل له ولا مكان له في وجدان وضمير المغاربة، وأن من يراهن على ذلك فإنما يراهن على وهم كبير.
الجواب الذي جاء من هولندا، جواب بليغ جدا لدرجة البذخ في البلاغة والدلالة، لأنه جاء من الجيل الثالث والرابع من مغاربة هولندا، وهنا مكمن بلاغته وقوته، فهذان الجيلان الذين ولدوا هناك وتربوا وتعلموا هناك، يؤكدون لمن يحتاج إلى ذلك أن المغربي حيثما حل وارتحل، يحمل معه قيمه وأصالته، وأن لا شيء يستطيع محو هويته أو التشويش عليها، وأنه في الأوقات الصعبة وفي الامتحانات المصيرية، الحسم يكون لهذه الهوية وهذه القيم المتجذرة، فالمغربي بكسبه التاريخي والحضاري يعبر عن ذاته من خلال تلك الهوية الأصيلة وهي عصية على المحو أو الانزياح، ولهذا المغاربة يتشابهون وإن اختلفت بهم الأمكنة والأزمنة، وإن تعددت انتماءاتهم واختياراتهم واختلفت – اختلاف غنى وتنوع- ألسنتهم وعاداتهم.
السردية التي سقطت أيضا في واقعة أمستردام، هي السردية التي حاولت أدوات التغلب والهيمنة الصهيونية بثها في الناس ونشرها، باعتبار ما وقع للصهاينة في أمستردام، هو نوع من معاداة السامية، فقد تتبع الناس في العالم بأسره، وعلى مدى يومين أي حتى قبل المباراة، الاعتداءات والاستفزازات التي مارسها مشجعو الفريق الصهيوني، وصلت درجة تسلق البنايات لتمزيق العلم الفلسطيني، بل إن الوقاحة وصلت بهم إلى الصفير أثناء دقيقة الصمت تضامنا مع ضحايا فيضانات إسبانيا، احتجاجا منهم على موقفها من حرب الإبادة التي تقع في غزة ولبنان.
لقد حاولت الصهيونية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية سجن العالم واعتقاله في سجن سردية معاداة السامية، وأصبحت هذه السردية من خلال أدوات الهيمنة الناعمة وعلى رأسها الإعلام المتحكم فيه، حصان طروادة، الذي تستعمله الصهيونية للقتل الرمزي لأي مخالف لتوجهاتها، وعبر هذه البوابة يتم اللجوء بعد ذلك لأدوات التصفية المادية بتحريك القضاء واستصدار أحكام القتل الرمزي، والمحاصرة بعد ذلك، ولنا في قصة الراحل رجاء غارودي وغيره الكثير وما يقع اليوم لأكاديميين وصحافيين وغيرهم من محاصرة وشيطنة وربما متابعات قضائية، ما يدل وزيادة على ما ذهبنا إليه.
لكن الوضع اليوم يختلف كثيرا عما كان أمس، بفضل دخول عنصر جديد فعال، ويتعلق الأمر بالطفرة الرقمية، حيث لم يعد ممكنا حجب المعلومة ولا حتى تزييفها بفضل منصات التواصل الاجتماعي التي تنقل الأحداث في مكانها وفي الزمن الذي تقع فيه، وبالتالي أصبحت الحقيقة متاحة للجميع بشكل مباشر وشفاف، وبالتالي لم يعد لنظرية “حراس البوابة” و أيضا “نظرية وضع الأجندة” أي جدوى رغم ما قامت وتقوم به الصهيونية العالمية في هذا الاتجاه، فقد أسقطت واقعة أمستردام ومعها ما يقع في الجامعات الغربية وفي شوارع عواصمها من تظاهرات أسبوعية منذ طوفان الأقصى إلى اليوم، سردية ” معاداة السامية” وعرتها وكشفت زيفها أمام العالم، وأسقطت معها النظريات التقليدية في الإعلام وبينت محدوديتها وعدم نجاعتها وكفاءتها.
ومن قبل أسقطت الطفرة الرقمية وطوفان المعلومة، السردية الصهيونية التي أطلقها الكيان مباشرة بعد طوفان الأقصى، والمتعلقة بحق الكيان في الدفاع عن نفسه باعتبار هذا الحق مشروعا بمقتضى القانون والاتفاقيات الدولية، لكن صور الجرائم المروعة في حق النساء والأطفال والمدارس والمستشفيات والبنيات التحتية وحرب التجويع والحصار، التي تناقلتها عدسات كاميرات الهواتف الذكية من عين المكان، هزمت هذه السردية هزيمة نكراء، وحتى الذين انطلت عليهم اللعبة في بداية العدوان، عادوا ليتراجعوا ويراجعوا أنفسهم، بعد أن أصبحت الحقيقة واضحة وضوح الشمس، وانكشف للعالم أن ما يقع بغزة حرب إبادة كلية وتصفية عرقية لا علاقة لها بالدفاع عن النفس كما تدعيه الصهيونية وعلى رأسها “النتن-ياهو” الذي حضي بتصفيقات الكونغرس الأمريكي الحارة وهو يلوك هذه الأسطوانة المشروخة، لكن الملايين من أحرار العالم تقززوا من ذلك المنظر المشين الذي يدين من صفق ومن صفق له، وعوض أن تكون تلك التصفيقات دليل مشروعية خطابه، أصبحت دليل إدانته وإدانة الإدارة الأمريكية المنحازة بل المتواطئة في الحرب على غزة.
ما وقع في أمستردام أيضا أسقط السردية التي حاول البعض بناءها، من خلال شيطنة اللاعب المغربي الكبير، حكيم زياش، بعد تدوينته الشهيرة حول ما يقع في غزة، والتعبير عما عجز عنه غيره من التضامن، ذلك أن زياش أصبح اليوم بمواقفه الرجولية والشجاعة أيقونة ليس فقط عند المغاربة ولكن عند كل أحرار العالم وحرائره، وبذلك أيضا سقطت أدوات الصهينة وسردياتهم في معركة الشيطنة تلك، وانجلى غبار وجعجعة الآلة الإعلامية الوظيفية للصهيونية داخليا وخارجيا.
ومباشرة بعد أحداث أمستردام ، قام لاعب صهيوني برفع دعوى ضد زياش لدى “اليوفا” على خلفية تدوينته التي جاءت مباشرة بعد الأحداث التي قال فيها عن الصهاينة “إنه حينما لا يتعلق الأمر بالأطفال والنساء فإنهم يهربون”، بما يدل على أن المعركة معركة جد وليس معركة هزل، معركة ساحاتها الوعي وميدانها القيم، وأسلحتها المنهزمة الإعلام والتضليل والبروبغندا المخدومة، وبيادقها أو بتعبير أدق “أرانب سباقها” هم مرتزقة الإعلام الذين بيننا من بائعي ضمائرهم وأوطانهم معا في سوق النخاسة الصهيونية.
وفي الختام، وحتى نفهم ما يقع على وجه التحديد ما علينا إلا نؤمن إيمان يقين بقوله تعالى ” وما يعلم جنود ربك إلا هو” صدق الله العظيم.