من خلال العنوان أعلاه “زوجة القاضي” يمكن أن يتبادر إلى ذهن بعض القراء في الوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بذلك العمل الروائي لصاحبه الأديب اللبناني المبدع “نزار دندش”، بينما الواقع غير ذلك، حيث نقصد هنا زوجة القاضي التي كشفت عن المستور وما يجري ويدور في دهاليز محاكمنا من تجاوزات خطيرة، وهي التي يفترض أن تكون فضاءات لذوي الضمائر الحية ممن يتحلون بالنزاهة والاستقامة واحترام القانون وحقوق المواطنين بلا تمييز، أولئك الذين يصدرون الأحكام باسم جلالة الملك وينبغي لهمالسهر على سيادة العدل والاستقرار في المجتمع، بإنصاف المظلومين ومعاقبة الظالمين والمفسدين، بعيدا عن أي شطط في استعمال السلطة والتلاعب بالأحكام مهما كانت التدخلات والإغراءات المالية.
ففي الأيام الأخيرة تجدد الحديث عن تفشي الرشوة والفساد في محاكمنا، وخاصة ما بات يعرف بين الناس بقضية “زوجة القاضي” أو فضيحة “بيع الأحكام”، تلك التي انفجرت في صيف عام 2022 بمدينة تطوان على خلفية ملف يرتبط بالرشوة والتلاعب في أحكام قضائية مقابل مبالغ مالية، وليس أبطالها البارزون سوى قضاة ومحامين، الذين قضت قاضية التحقيق في غرفة جرائم الأموال بالرباط يوم الخميس 14 نونبر 2024عدة ساعات في الاستماع التمهيدي لهمقبل أن تخلص إلى قرار إيداع القاضي الرئيسي وثلاثة محاميين سجن تامسنا قرب مدينة تمارة، بينما تم الاكتفاء بالمتابعة في حالة سراح مع المراقبة القضائية والمنع من مغادرة التراب الوطني في حق قاض ومحام.
وجدير بالذكر أنه بعد شهور من الاستماع إلى قاضيين وثمانية محامين بتهمة تلاعب بملفات قضائية في محكمة تطوان ومن بينها قضية “ولد الفشوش” صاحب سيارة “لومبرغيني” الفارهة، التي حدث أن صدمت سيارة أجرة وألحقت بها أضرارا مادية بليغة وخلفت إصابة ركابها، أثناء قيام أحد المهاجرين بمحاولة تجربة قيادتها، ليقرر رئيس قسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالرباط متابعة جميع المتهمين في حالة اعتقال باستثناء محام واحد ونجلي القاضي الذين صدر قرار متابعتهم في حالة سراح.
وتعود تفاصيل هذه الفضيحة إلى صيف عام 2022، عندما أقدمت الزوجة السابقة لقاضي تطوان المشتبه به في إطار تصفية حسابات شخصية على وضع تسجيلات صوتية لدى الوكيل العام للملك، تكشف عن اعترافاته بتورطه في معاملات مالية مشبوهة ذات صلة بأحكام قضائية. وهي تسجيلات موثقةوتتضمن أدلة واضحة على بيع قرارات قضائية بطريقة ملتوية.حيث استفاد منها أشخاص متورطون في قضايا تهريب مخدرات وتزوير وثائق سيارة فاخرة، منهم من صدر في حقهم الحكم بالبراءة خلال مرحلة الاستئناف في التقاضي بعد الإدانة ابتدائيا، ومنهم من استفاد من تخفيض العقوبات الحبسية، بالإضافة إلى تمتيع صاحب معمل بحكم لفائدته ضد عماله. مما خلف استياء عارما وضجة واسعة في الأوساط القضائية وداخل المجتمع المغربي.
فالمثير للاستغراب في هذه الفضيحةالتي مازال الكثيرون يترقبون خلاصة التحقيقات المتواصلة، أنه فضلا عما يروج من رشوة بقيمة مائة مليون سنتيم للإفراج عن أحد المتورطين في حادثة سير باستعمال السيارة المشار إليها أعلاه، وإحالة رئيس الغرفة الجنحية مع نجليه، أحدهما مشتبه به في تبييض أموال في مشاريع عقارية تعود لوالده الذي تحصل عليها من أموال غير مبررة، أنهاكشفت عن شبكة معقدة من الفساد في محاكمنا، بعد أن أظهرت التحريات تورط قضاة ومحامين في ممارسات غير مشروعة، عبر التلاعب في الأحكام القضائية مقابل مبالغ مالية…
وبناء على تداعيات هذه الفضيحة وما سبقها من فضائح، يتضح أنه رغم كل ما بذل من جهود وبوشر من إصلاحات، مازال القضاء ببلادنا على حاله من حيث استشراء آفة الفساد، التي طالما نبهت إليها التقارير الدولية بمساهمة من هيئات حقوقية ومؤسسات وطنية، ولاسيما بعد أن طالت الاعتقالات في عدة مناسبات مجموعة من القضاة والمحامين وسماسرة المحاكم بمختلف المدن المغربية، مما يستدعي النظر في الوضع القانوني والسياسي، وتحليل كلالمعطيات المتوفرة في هذا الشأن خلال السنوات الأخيرة.لأنه من الضرورة بمكان أن يكون القضاء من بين الركائز الأساسية في تحصين القانون واحترام حقوق المواطنين، وأنيحرص أصحاب القرارعلى نزاهة رجالاته والحيلولة دون تسرب الفساد إلى مفاصله، حتى لا يؤثر ذلك بالسلب على مبدأ استقلاليته وعلى نظام العدالة بصفة عامة.
إن قضية “زوجة القاضي” أو فضيحة “بيع الأحكام” ليست هي الأولى من نوعها في الكشف عن حجم الفساد المستشري في جهاز القضاء، إذ هناك من القضايا التي تعالج بمقابل في الخفاء ما هوأفظع، رغم توفر بلادنا على ترسانة قانونية واستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد. لأنه من الصعب تجفيف منابع هذه الآفة الخطيرة في غيابالإرادة السياسية، ودون تضافر جهود الجميع بما في ذلك الحكومة والهيئات القضائية نفسها والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والمواطنين،والسهر كل من موقعه على رصد وتسليط الضوء على حالات الفساد وحماية حقوق المتقاضين في أجواء من النزاهة والشفافية.
اسماعيل الحلوتي