بقلم فكري سوسان
كيف يمكن للنصوص أن تتجاوز الحدود اللغوية والثقافية لتصبح جسراً بين الحضارات؟ هذا ما يكشفه كتاب “Kilito en question” من خلال تجربة فريدة تجمع بين الترجمة والتفاعل الثقافي.
ترجمة نافذة على الأدب
الترجمة الأدبية ليست مجرد عملية نقل لغوي، بل هي نافذة نطل منها على عوالم جديدة ونكتشف من خلالها عمق النصوص في سياقات مختلفة. إنها وسيلة للتفاعل الثقافي وإعادة بناء النصوص بما يتناسب مع بيئات لغوية وثقافية جديدة. من هذا المنطلق، جاءت رغبتي في ترجمة كتاب “Kilito en question: Entretiens avec Amina Achour” من اللغة الفرنسية إلى الإسبانية. هذا الكتاب ليس مجرد سلسلة حوارات بين الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو وزميلته أمينة عاشور، بل هو وثيقة أدبية تعكس عمق التجربة الفكرية لكيليطو، وتفتح أبواباً لفهم رؤيته للأدب والتراث والهوية الثقافية. إنها رحلة تجمع بين النقد والتأمل، تسلط الضوء على فكر أحد أبرز الكتّاب العرب المعاصرين الذين جعلوا من التفاعل الثقافي محوراً رئيسياً لأعمالهم.
عن الكاتب والكتاب
عبد الفتاح كيليطو، أحد أبرز المفكرين والكتاب العرب المعاصرين، يتميز بقدرته الفريدة على المزج بين التراث العربي الكلاسيكي والفكر النقدي الحديث. يمثل كيليطو حالة أدبية استثنائية في المغرب والعالم العربي، حيث يعيد قراءة النصوص التراثية مثل “ألف ليلة وليلة” ويمنحها أبعاداً جديدة تتجاوز حدود الزمن والجغرافيا. من خلال هذه المقاربة الإبداعية، يفتح أبواباً جديدة أمام الأدب العربي ليصبح جزءاً من حوار ثقافي عالمي.
الكتاب “Kilito en question” يقدم رؤية عميقة لروح كيليطو، ليس فقط ككاتب بل كإنسان يحمل ذاكرة ثقافية غنية وتجربة حياتية مميزة. يناقش الكتاب تأثيرات الطفولة وتشكيل الهوية الأدبية، كما يتناول دور الترجمة في صقل رؤيته، مما يجعل الأدب بالنسبة له جسراً يصل بين الثقافات. من خلال الحوارات التي تديرها أمينة عاشور، تظهر أفكار كيليطو بوضوح وعمق، حيث تتحول الحوارات إلى فضاء للتأمل والتعبير الحر عن القضايا الأدبية والفكرية.
تحديات الترجمة: بين الحفاظ على النص وإعادة خلقه
الترجمة ليست مجرد نقل الكلمات أو الأفكار، بل هي فن يتطلب فهمًا عميقًا للنص وأبعاده الثقافية. كان التحدي الأكبر هو الحفاظ على التدفق الطبيعي للحوار بين كيليطو وعاشور، مع إبراز الحس التأملي الذي يميز النص.
إحدى التحديات الأخرى تمثلت في التعامل مع الإشارات الثقافية واللغوية التي تحمل في طياتها أبعادًا تاريخية وفكرية عميقة. كان من الضروري أن أضمن أن القارئ الناطق بالإسبانية سيشعر بالسلاسة ذاتها التي يشعر بها القارئ الفرنسي، دون أن يفقد النص خصوصيته أو عمقه. في هذه العملية، شعرت بمسؤولية كبيرة تجاه تقديم عبد الفتاح كيليطو ليس فقط ككاتب مغربي، بل كصوت عالمي يحمل رؤية أدبية فريدة قادرة على تجاوز الحدود الثقافية والوصول إلى جمهور جديد في أوساط أدبية لم تتعرف عليه من قبل.
التفاعل الثقافي بين الأدب العربي والغربي
“Kilito en question” ليس مجرد كتاب عن الأدب، بل هو دراسة متعمقة في آليات التفاعل الثقافي وتأثيراته المتبادلة. يقدم كيليطو رؤية ديناميكية وفريدة لهذا التفاعل، مسلطاً الضوء على الكيفية التي أثرت بها النصوص العربية الكلاسيكية، مثل “ألف ليلة وليلة”، على الأدب الغربي، ليس فقط كإلهام سردي، بل كمصدر لتطوير أشكال جديدة من الكتابة والتعبير الأدبي. يشير كيليطو إلى أن هذه النصوص لم تُقرأ فقط كحكايات ممتعة، بل تم استيعابها وإعادة إنتاجها بطرق أثرت في تكوين الأدب العالمي.
من جهة أخرى، يستكشف كيليطو كيف استلهم الأدب العربي الحديث من عمالقة الأدب الغربي مثل كافكا وبورخيس، حيث يظهر هذا التأثر في تطور الأساليب السردية وتبني تقنيات جديدة تمزج بين الخيال والواقع. يبرز كيليطو في هذا السياق أن التفاعل الثقافي ليس عملية ذات اتجاه واحد، بل هو حوار متواصل يُعيد تشكيل الهوية الأدبية لكل طرف.
ما يجعل هذه الرؤية مميزة هو عمقها وقدرتها على تجاوز الحدود الزمنية والجغرافية، مما يجعل الأدب وسيلة لخلق هوية أدبية عالمية تتسم بالتعددية والانفتاح. يعرض الكتاب كيف يمكن للأدب أن يكون وسيطاً لفهم الذات والآخر، وكيف يمكن للتراث أن يصبح مصدراً لإبداع متجدد يتجاوز قيود الزمان والمكان. التفاعل الثقافي، كما يصفه كيليطو، ليس مجرد لقاء بين حضارتين، بل هو عملية مستمرة تُثري الأدب العالمي وتؤكد على أهمية الحوار الإنساني في تشكيل ثقافة مشتركة.
أهمية الترجمة
إتاحة هذا الكتاب باللغة الإسبانية تمثل أكثر من مجرد إضافة إلى المكتبة الأدبية؛ إنها خطوة محورية لتعريف جمهور جديد بفكر عبد الفتاح كيليطو، الكاتب الذي يعيد صياغة مفهوم الأدب العربي ويضعه في سياق عالمي. الترجمة، في هذا الإطار، ليست نهاية لرحلة النص، بل بداية لرحلة جديدة تمنح العمل فرصة للتفاعل مع قراء مختلفين. إنها جسر يمتد بين القارئ الناطق بالإسبانية والتراث العربي، يفتح آفاقاً لاكتشاف عمق الإبداع الثقافي المغربي وثرائه.
“Kilito en question” ليس مجرد كتاب حواري؛ إنه تجربة فكرية عميقة تتجاوز الأسئلة المطروحة لتدعو القارئ إلى التأمل في مفاهيم أوسع، مثل الأدب، الترجمة، والهوية الثقافية. من خلال هذه الترجمة، أطمح إلى توسيع دائرة الحوار الثقافي بين العالم العربي والعالم الناطق بالإسبانية، وتعزيز الفهم المتبادل. الكتاب، في جوهره، ليس فقط انعكاساً لرؤية كيليطو، بل دعوة لإعادة النظر في التراث من منظور جديد، يجعله حياً ومتجدداً في أذهان قراء العصر الحديث.
آمل أن تكون هذه الترجمة بداية لحوار أكثر عمقاً بين الثقافات، وأن تلهم قراءً جدد للغوص في عوالم كيليطو الأدبية، حيث تمتزج الأفكار بروح نقدية تتجاوز حدود الزمان والمكان.