- محمد بلمزيان.
لقد أضحى التساؤل عن دوافع ضمور الفعل الثقافي الجاد في هذا الزمن القاحل على جانب كبير من الأهمية والمشروعية، بعد أن تحول (الفاعل ) الثقافي الى (مفعول به) بمعنى من المعاني، بدل أن يكون (فاعلا ) في الحقل المجتمعي والسياسي ومؤثرا في الساحة كما كان عليه الوضع في السابق، وانتقل الحديث عن نهاية (الثقافة) و(المثقف ) من كلام التفكه والسخرية الى حديث على قدر كبير من الجدية والتشخيص الصحيح القريب للوضع الحقيقي لراهن الثقافة والمثقف اليوم ، بحيث يوجز الواقع العام الذي تحولت فيه الثقافة الى حقل (غير مؤثر) وحادت عن سكتها الطبيعية ودورها الريادي كما كان عليه الأمر في الزمن الغابر، فلم يعد أحد يتقفى أثر الفاعل الثقافي أو ينصت اليه باعتباره منتج أو مروج للقيم الرمزية إلا نفر قليل من المهتمين بالمقارنة مع ما يجتذبه الفاعل السياسي والرياضي من أتباع وحواريين إن لم نقل ببغاويين من كل صنف طرف، ويعز أن تعثر على من يرغب في الإغتراف من ينبوع المعرفة والعلوم الإنسانية بين متصفحي الصفحات والمواقع الإجتماعية، في زمن تعج فيه المنصات والشاشات ووسائل التواصل الإجتماعي والمواقع الإلكترونية بمختلف السلع الإستهلاكية ونماذج إشهار التفاهة بمختلف صورها ، إلا القليل من سلم من الإنحدار الى هذا النفق السحيق/ الرهيب ، وبالتالي فإن الفاعل الجديد الذي أصبح يطفو على السطح ويحمل تسميات (مؤثر) و(صانع محتوى) … الى غير ذلك من التسميات، صار في هذه الوضعية الجديدة التي أصبحت لا تشترط التمكن من اللغة العالمة أو علم التواصل أو أي قيمة اعتبارية أو شهادة أكاديمية أو مكانة اجتماعية، عملاق الثقافة السائدة، بفعل خصوبة المرتع لتناسل مختلف الكائنات التي احترفت الإقتيات والنهش في جسد الناس والتحليق فوق برك المياة الآسنة ، ناشرة في طريقها ما استخمدته ( من الإستخماد ) طوال سنين من روائح تخنق الأنفاس وتلوث المجال والمحيط بما تنتجه عفوا تقيؤه ليل نهار من (قواميس) بمثابة مفاتيح جديدة في التفكير والأكل واللباس،معلنة عن نفسها ( طرازا ) جديدا من كبضاعة ثقافية أصبحت لا تقدم نفسها من موقع الدفاع عن بضاعتها للحصول على ( الإعتراف والشرعية) والبحث عن موطيء قدمها ضمن الخريطة المبعثرة الموجودة فقط ، بل إنها تستعمل كخطاب هجومي كاسح يستهدف كل ما هو مكتسب ويخرب كل ما هو عقلاني وجميل في المشهد الثقافي الرمزي ، الذي تراكم تاريخيا بفعل تضحيات الرواد السابقين في مجالات مختلفة، فلم يعد للمتمكن من اللغة أو المتحصل على مستوى معرفي قادران على منافسة هؤلاء المتنطعين( الحاذقين ) ولاحسي الأحذية لأسيادهم والمتنكرين في أقنعة وصور حربائية متلونة حسب الحاجة والظرفية ، لاكتسابهم ل ( مهارات ومراس) عفوا ( القدرة على النفاق) في مجال استبدال الجلد في كل مرحلة، شأنهم في ذلك شأن الثعابين وبتغير موقفهم كالحرابي بمجرد أن يعتلوا لونا يختلف عن طبيعة الهوية التي عرفوا بها، لسبب بسيط هو أن هؤلاء لا فواصل لديهم في التمييز بين التافه السفيه والجاد النزيه،وأصبحوا يسوقون لذوقهم ويروجونه للعامة بكيفية لا تخلو من مكر ومكيدة مستغلين بذلك ضحالة وعيهم وسذاجة عقلهم ، متوجهين بذلك الى شريحة واسعة من المحرومين من التعليم، بلغة بسيطة قاموسها يتفاوت بين السخرية والسوقية يقدمونه لعامة الناس على قدر كبير من الزخرفة ليس لغرض الرفع من مستوى معارفهم ودلهم على الوجهة الصحيحة ، لخطف انتباههم وتحفيزهم نحو ارتياد أسواق معينة وإدماجهم في منظومة من (القيم الجديدة) التي سخروا من أجل تسويقها وتلميع صورتها داخل المجتمع والرأي العام المحيط بكيفية لا تخلو من مكر خديعة ، مشكلين بذلك أرضية خصبة لتناسل خطابات مماثلة لا تخلو من شعبوية فجة، مروجين لبضاعاتهم المستوحاة من مراجع ثقافة التفاهة في أحط مستوياتها بشكل لا يخلو من انتهازية بأسلوب ينتهج الإطناب والإجترار للفكرة من أجل الإيقاع بالضحية بقدر عال من ( الحرفية ) والإستدراج نحو ( نمط ثقافي جديد ) يتحول مع مرور الوقت وعبر التكرار الى قواعد في التفكير ومعايير للفهم والقياس لكل شيء، بالموازاة مع انتشار هذا ( البراديغم ) الجاهز الذي هو عبارة عن حشو قابل للإستعمال في أي زمن و مكان مع تغيير بعض التوابل يتم عبره استمالة المريدين مع القدرة على الإستدراج للمترددين أو الرافضين، عبر تحجيم الإرادة على المناقشة والتساؤل لتجاوز الواقع المحيط المشحون بالإحباط والنكوص،وقد تتعدد هذه الأساليب حسب السياق السوسيوالثقافي والإقتصادي ليكون أرضية خصبة لتناسل أنماط متماثلة من التفكير وتتخذ نفس المعيار في الفهم والمقاربة للواقع الإجتماعي بكيفية يجعلها مقبولة (كقوة ناعمة) تنتشر كالنار في الهشيم في حقل قاحل، لكنها لاتطرح البدائل حتى تتناغم مع حاجة واستراتيجية التذويب لكل ما هو رمزي يستهدف تحقيق مكتسبات معينة كمرامي لا يعلمها الا الضالعون والواقفون خلف الستار، وعلى مستويات مختلفة ضمنها البعد الثقافي ، الذي يبقى عماد أي رهان على إعلاء أو تحطيم أية بضاعة ثقافية مغايرة ، للسيطرة على مشاعر ورغبات الناس بدءا بنمط التسوق وطبيعة التفكير ومرورا بنمط العيش وانتهاءا بالدعاية لتوجهات سياسية بعينها، والهيمنة على طموحاتهم المستقبلية في كل شيء وتقييد سلطة الإختيار واتخاذ القرار المستقل خارج هذه المنظومة المحددة .
لقد كثرت هذه السلع أو التقليعات الثقافية في السنوات الأخيرة، الى درجة أضحى عامل السرعة دافع أساسي باتجاه وضع بساط لتقبلها والترويج لها وكأنها تجيب عن بعض مشكلات المرحلة لدى العديد من الأطراف المنتفعة التي تبحث عن كسب المزيد من الأتباع والمطبلين والحواريين، لكون أداتها تعتمد على الإستنساخ للنماذج الموجودة وتتوجه الى سوق المستهلكين عارضة عليهم كليشيهات ( قيمها) بكل أريحية دون أن تطلب شروطا معينة في الولوج الى فضاءات أسواقها الرائجة، على أن يتحرر الوافدون الجدد من عقدة فقدان الهوية والإنصهار في المجموعة الفاقدة لأية بوصلة أو مرجعية، وقد تتناسل الأدوات المستعملة في إرساء هذه القوالب الجاهزة عبر منصات التواصل الإجتماعية أو الوسائل الإعلامية الرقمية وباقي التطبيقات المتاحة أمام كل راغب في معرفة ما يمور بداخلها،وهذا ما كرس لظاهرة الكسل والخمول والميل نحو الإقتداء بالآخر ولو كان هذا ( الآخر) فاقدا لأية شخصية اعتبارية ورمزية أو قيمة ثقافية أو فنية ، وهو في التحليل الأخير لا يعدو أن يكون إلا أحد روافد التفاهة ومسخرة للتافهين خلف الكواليس،طفا على السطح بعدما ابتلع كتلا من التفاهات ابتلاعا لا هضما ، ونفخ فيه كما نفخ في الآخرين أمثاله وبات منشفة طافية تتقاذفها الأمواج، وبارزة للعيون المصابة بالرمد، وقد صار من السهل ملاحظة هذا الإنحدار الخطير في مستويات تعلم التلاميذ والطلبة، وذيوع وسائل الغش في صفوفهم والتوجه نحو النسخ للأجوبة والبحث عن السهل الممتنع حتى وإن تطلب الأمر السرقة المكشوفة دون بذل أي مجهود شخصي من شأنه أن يحفزهم على الإجتهاد والبحث عن الأجوبة من تمثلات الدروس الصفية،.وقد نلفي هذه الظاهرة مطروحة في جل مناحي الحياة الإجتماعية والإقتصادية والإبداعية والفنية حتى ،والإلتجاء غالبا الى الأساليب الماكرة في ارتياد الأسواق الرائجة واكتساب النجومية والشهرة ولو عبر الغش وانتحال الصفة، الأمر الذي ينتج عن ذلك ولادة قواعد جاهزة في احتراف النصب والمكر والخديعة بحثا فقط عن النجومية وانتفاخ الشخصية وبناء جبال من الرمال في علو كعبها ، مما يفوت الفرصة على بناء شخصية سوية للمواطن ، الذي من المفروض أن يكون كائنا متشبعا بقيم مغايرة منذ النشأة الأولى في التربية والتعليم ومرورا بجميع المراحل العمرية بما يجعله قادرا على إشاعة قيم الإعتداد بالنفس والإعتماد على المجهود الشخصي في التعلم والمعرفة، وهذا لن يتأتى بالطبع إلا بتوفير تعليم مجاني لكافة شرائح المجتمع الذي بفضله يتأتى اكتساب المهارة على الإختيار بدل الإنجرار وراء ( السحرة ) ومروجي التفاهة التي أضحت سلعهم تغزو جميع مناحي الحياة المجتمعية، واتخاذها مرتعا خصبا للإستقطاب والترويج لبضائعهم المسمومة خدمة لأجندة مصالح جهات اقتصادية/ ثقافية محلية أو عابرة ، تلتقي في بوتقة واحدة عنوانها هو إفساد الذوق العام ومراكمة الأرباح المادية وجني الغلات على حساب القيم الإنسانية الرفيعة.