مثل أي كيان حي، تمر السياسة المغربية بدورات من الصعود والأزمة والتجدد. ومع ذلك، في بعض الأحيان، يعود الماضي لا بوصفه وعداً متجدداً، بل كمرآة تعكس الحاضر العاجز عن تقديم بدائل جديدة. إعادة انتخاب عبد الإله بنكيران أميناً عاماً لحزب العدالة والتنمية تندرج أكثر ضمن هذا السياق الثاني.
بخطابه القتالي المميز وغريزته الحادة لالتقاط مشاعر السخط الشعبي، يعود بنكيران إلى الواجهة في وقت تتزايد فيه مشاعر النفور من السياسة. بعد ولاية حكومية وعدت بـ”الدولة الاجتماعية” وانتهت محاصرة بين التضخم وخيبات الأمل الاقتصادية وإدارة يُنظر إليها على أنها بعيدة عن نبض الشارع، بدا الطريق ممهداً لعودته.
لا شك أن بنكيران لا يزال لاعباً سياسياً بارعاً. يعرف كيف يوظف الخطاب المسرحي، وكيف يخاطب العواطف الشعبية، ويقدم خطاباً يجمع بين التنديد والسخرية والرهان على الهويات الثقافية والدينية. في زمن القلق، يبدو أسلوبه المباشر مغرياً مقارنةً ببرودة خصومه التكنوقراط.
ومع ذلك، خلف بريق الكلمات تبرز أسئلة مقلقة: ما المشروع الحقيقي الذي يقدمه بنكيران بخلاف تأجيج المشاعر؟ وما الحلول الملموسة التي يقترحها لمواجهة التحديات البنيوية الخانقة للبلاد؟ إن شعبويته العاطفية، رغم فعاليتها في تحريك القواعد الشعبية، قد تظل مجرد شعارات فارغة تفتقر إلى برنامج عملي واضح.
من هذه الزاوية، تكشف عودة بنكيران عن مهارته الشخصية كما تكشف عن هشاشة المشهد السياسي الحالي. فصعوده لا يعكس بالضرورة تجديداً فكرياً أو مشروعاً إصلاحياً عميقاً، بقدر ما يكشف فراغاً قيادياً عاماً وأزمة مصداقية سياسية متفاقمة. لقد فرض نفسه لغياب منافسين حقيقيين، ولأن المواطنين، الذين خابت آمالهم، يبحثون عن وجوه مألوفة، حتى وإن كانت من الماضي.
بنكيران استفاد من أخطاء حكومة غارقة بين الوعود غير المنجزة وأعباء التسيير. لكن عودته لا ينبغي أن تُفهم بوصفها بداية مرحلة إصلاحية جديدة؛ بل تبدو تأكيداً على أن النقاش السياسي لا يزال عالقاً بين شعبوية عاطفية وتكنوقراطية صماء، بين ضجيج الشعارات وصمت الأفكار.
السؤال الحقيقي اليوم لا يكمن في من يستغل مشاعر السخط، بل في من يستطيع تقديم رؤية مستقبلية تعيد بناء الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم. وفي هذا المجال، لا تكفي الكاريزما ولا البلاغة الخطابية.
إن المغرب بحاجة إلى أكثر من مجرد حضور مسرحي أو خطابات عاطفية. بحاجة إلى جيل جديد من القيادات السياسية يجمع بين الطموح والواقعية والالتزام الحقيقي بتطلعات الشعب. وإلا، فإن السياسة ستظل تدور في حلقة مفرغة، بين عودات استعراضية وخيبات متكررة.
التبريس. متابعة