من إعداد : محمد الزياني
الحلقة الرابعة (4)
مع البدايات الأولى لظهور مجموعة ناس الغيوان مطلع سبعينيات القرن الماضي ، وجد بوجمعة نفسه مهيأ لتلقف اغانيها بحماس منقطع النظير ، متلهفا على استنطاق إسطواناتها عبر جهازها المشغل (tourne-disque) الذي اعتبر في الإبان امتيازا لبعض العائلات دون الأخرى ، سيما العاشقة منها للموسيقى والنغم، كما هي عائلة بوجمعة التي كثيرا ما حكى عن ولعها المبكر بسماع الأغاني الشرقية والأنباء السياسية المشبعة بروح القومية العربية العابرة لأثير هذه البلدان عبر الإذاعات : القاهرة ولندن وصوت فلسطين التي استوطنت بيوتاتنا المتواضعة مبكرا من خلال راديو (TRANSISTOR) الثاوي في ثناياها، شادا مسامعنا لتلك الأحداث السياسية المؤطرة بذات التوجه الذي اكتسح كل المجالات : السياسة والفكرية والفنية ، في غمرة انتشاء هذه الشعوب المغلوبة على أمرها بخطابات جمال عبد الناصر: الزعيم الملهم لحماس جيل ما بعد 1956 الذي جسد في الرجل بريق امل خلاصه من الإحباطات والهزائم المتتالية في ظل أنظمة سياسية قطرية متهالكة عاجزة عن صد العدوان الصهيوني وتوغله في تلك المنطقة المسماة عربية.
في هذا المناخ العام ،وكاحد افراد هذه العائلة، اعتاد بوجمعة الاستماع الى الأغاني الشرقية في شخص أقطابها الأوائل : محمد ع الوهاب ـالسنباطي ـ ام كلتومـ زكريا احمد ـ فريد الأطرش وشقيقته إسمهان وكذا فيروز اللبنانية التي كان مبهورا بصوتها الملائكي….بنفس الحس الفني الذي كان يتفاعل به مع أغاني غربية لفنانين وفرق ذات صيت عالمي – ABBA- The Eangles- Beatles Creedence –Deep_purple-Roling_Stoneـjimi Hendrix –Carlos santana-Pink_Floyd….وغيرها ممن كانت تصله أسطواناتها من أصدقاء ومقربين منهم : أعضاء مجموعة berbère experience الذين كانوا يستلهمون هذه الاغاني في تنوعها ويجتهدون في استعادتها بشكل راق جدا جعل من مقر تداريب هذه المجموعة ـ بقلب حديقة الكنيسة(باركي نشيتا) ـ محجا للشباب المهووس بركوب موجة هذه الأغنية الجديدة .
ومع حلول آلة التسجيل magnitophone محل tourne- disque جعل منها بوجمعة رفيقة له في حله وترحاله معبئا إياها يأحدث الأشرطة الغيوانيةالتي بدأ صداها يعم فضاءات مقاهي الأحياء الشعبية و الأسواق ومعبر” قيصارية صالح”الوحيدة التي كانت بمدينتنا، حيث تتمركزالمحلات المتخصصة في بيع هذه الأجهزة السمعية والوسائط الإعلامية وكذا تفريغ محتويات الإسطوانات وتحويلها عبر أشرطة مسجلة بإتقان ، خصوصا ب(المحل رقم 7) عند المرحوم محمد ( الدكتور) واحمد اكوحقبل ولوجه لسلك الوظيفة العمومية ..وعبد الوهاب (الذي لايزال قابعا بذات الموقع يستعيد ذكريات ماض ولى ) ضمن أجواء صاخبة تنذر بثورة غنائية شبابية آتية لا ريب فيها . وكانت آلة التسجيل هذه لا تبارح صاحبنا بوجمعة في أوراش عمله ، تؤنس وحدته وتشحنه طاقة وحيوية يتحدى بهما أتعاب العمل ومشاقه ،مرافقا ، بصوته المتميز ، تموجات هذه الأغاني مهما علت مقاماتها وسلاليمها الموسيقية التي يملأ صداها بهو المنازل وفراغات البيوت موضوع الاشتغال ، وقد حكى لي ، كيف صادف مرة ـ (وهو يزاول عمله ببيت احد الموظفين البارزين بعمالة الإقليم) أن كان في ذروة انغماسه في ترديد إحدى هذه الأغاني الغيوانية، يغني ويصيح حتى وقعت عيناه على صاحب المنزل منتصبا أمامه ، مستمتعا بعذوبة ذاك الصوت النابع من الأعماق ، مما سبب لبوجمعة حرجا وارتباكا جعله يتوقف للتو احتراما وخجلا ، غير ان الرجل أشار إليه بالاستمرارقبل أن يقترب منه مهنئا إياه على جمال صوته وتميزه ، مشجعا إياه وملحا عليه بصيانة هذه الموهبة الفنية وبحث سبل استثمارها وتطويرها نحو الأفضل في المستقبل ..
شيئا فشيئا بدأت تطفو على السطح المحلي والوطني ظاهرة تشكيل المجموعات الغنائية الملتزمة في تفاعل سريع مع مثيلاتها في الشرق والغرب مع تنامي الوعي الشبابي التحرري تحت وقع اهم الأحداث السياسية في العالم : ثورة الطلاب بفرنسا 1968 ـ حرب الفيتنام، انقلاب الديكتاتور بينوشي على التجربة الديمقراطية الفتية في التشيلي بقيادة سلفادور أليندي 1972 وما تداعى عنها من اعتقالات واغتيالات للأصوات الحرة وعلى رأسها المغني الثائر فيكتور خاراVICTOR JARA…أضف إلى ذلك الهزيمة المدوية للجيوش العربية سنة 1967 في حربها ضد العدو الصهيوني وحلفائه…مما اعطى شحنة قوية لكل الحركات التحررية في قيادتها لحملات الاحتجاج عبر العالم شملت كل الميادين السياسية والثقافية والفنية لعب فيها الفكر الفلسفي الماركسي والوجودي دورهما الطلائعي في التعبئة وتحريك همم االشعوب التواقة إلى التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار ومن هيمنة الأنظمة الرجعية ، وقد وازى هذا كله ثورة اجتماعية غيرت من معالم الحياة المتوارثة وشجعت على بروز تقليعات وظواهر اجتماعية مست انماط العيش والملبس تمردت على السائد مثل حركات” الهيبيزم “و”البوهيمية ” وغيرها من المذاهب التي راحت تنشد الحرية والسلام في العالم .وإن كان ظاهرها يوحي بثورة ثقافية وأخلاقية / قيمية ، إلا أنها كانت تستبطن تصورا سياسيا لمجتمع بديل وجد ظالته في الأغنية والرقص والفنون الأخرى كمجال خصب للتعبئة واستشراف هذا المشروع الذي يروم تحقيق السلام والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية .
المغرب و الريف تحديدا لم ينج من هذا التأثير الجارف، بفضل الاحتكاك الاعلامي وتنامي الوعي الثقافي والسياسي لدى هؤلاء الشباب الذين استفادوا من فرص تعليمهم العالي برحاب الكليات والجامعات التي شكلت وقتها بوتقة النضال الديمقراطي الجماهيري..
في ظل ذات الأجواء التحم بوجمعة مع ثلة من شباب اهم الأحياء الشعبية بالحسيمة ، باريو ودهارنمسعوذ ووسط المدينة ..ليرسموا معا معالم تجربة جنينية في الغناء ضمن مجموعة ” تواتون” ، وكان ذلك سنة 1973/1974 محاولين في البداية ترتيب الإيقاع وانسجام الأصوات ، معتمدين تقليد ما شاع من أغاني الغيوان وجيلالة ولمشاهب ومن لف لفهم من فرق عمت ربوع الوطن …
( في الحلقة القادمة : بوجمعة ومجموعة تواتون ، عشق أبدي)