الغبزوري السكناوي
في زمن الإملاق وقلة ذات اليد، حدث أن أحد أبناء جلدتي خرج في رحلة بحث عمّا يسدّ به رمق يومه. انتهى به المطاف “بستانيًا” في حديقة وزارة، عاملًا بسيطًا يقطع أوراق الأشجار ويجزّ العشب. لكن الرحلة لم تتوقف عند هذا الحد. شيئًا فشيئًا، لم يعد الرجل يكتفي بسدّ جوعه، بل بدأ يقدّم نفسه في البلدة على أنه “مستشار وزاري”… بدون مقدمات، وبدون حتى ورقة تبليغ من الوزارة!
بدون مرسوم تعيين، ولا توقيع رسمي، شقّ طريقه فقط ببطاقة مهنية مزوّرة، وبدلة مستأجرة، وجلسات في مقهى شعبي مع من لا يطرحون الأسئلة. هناك، حيث يُصنع المجد من الكلام المعسول، تحوّل صاحبنا إلى رجل “العلاقات العامة”، وصارت بطاقة الزيارة الوهمية جواز سفر نحو عالم لا يعترف إلا بالصفات المُلفقة، حيث الكذب ليس عيبًا، بل مهارة تُفتح بها الأبواب.
الغرابة لا تكمن في الادعاء، بل في النجاح الباهر الذي تلاه، بعد سنوات من التمثيل المتقن! ففي مقاهي العاصمة، حيث يتوافد الكبار وتُنسَج قصص النفوذ، جلس بينهم، لا ليستمع أو يتعلّم، بل ليبتسم ويلتقط الصور، ويبدو في هيئة رجل “يُحرّك الخيوط”. هناك، بدأ يتحدث لغة المال والأعمال، وتحوّل إلى وسيط غير رسمي في الرخص التجارية، كأنه محرك خفيّ خلف الكواليس.
في هذا الوطن، يكفي أن تهمس بأنك “مستشار وزاري” حتى تُفتح لك الأبواب، ويُفرش أمامك بساط الفساد الإداري. حلم صاحبنا لم يتوقف، فقرّر أن يلج سوق الانتخابات. ومن حُسن حظه… أو من عبث السياسية، وجد نفسه مستشارًا جماعيًا. لكن شيئًا ما ظل يُعكر صفو هذه “الترقية”… إنه الوضع الاجتماعي؛ فالرجل سئم استئجار البذلة، وأراد أن يمتلك واحدة تُفصّل على مقاس وهمه. وهكذا استحضر كل أدوات النحو السياسي، ووقف أمام المرآة معتقدًا أنه بات نسخةً معدّلة من أصحاب القرار.
في رحلة البحث عن يافطة الوجاهة والنسب الرفيع، قرّر الرجل أن يخطو أولى خطواته نحو المجد المستعار. لجأ إلى “أهل الضمانة” طلبًا للحصانة تحت ظل شجرة قديمةٍ مديدة الجذور، تسلّق أغصانها بخفة قرد بارع. لا أحد أدرك كيف ولا متى، لكن في لحظة تيهٍ أو غفلةٍ من الحركة، قفز صوب دار مجاورة. هناك، صار “سيدًا” بنسبٍ جديد، ومقعدٍ وارفٍ. معجزة من نوع خاص، لا تحدث إلا حين تختلط الأنساب بالمناصب.
وما دام الحديث عن الكفاءة مؤجّلًا إلى إشعار غير معلوم، فإن المقاعد تُملأ بمن حضر، وبمن أتقن الحيلة ولو عابرًا. وبتلك الصدفة التي تُجيد خداع المنطق، وجد نفسه على رأس جماعة ترابية، بعد أن صوّتت له صناديق بلا ذاكرة، وصفّق له جمهور بلا أسئلة. صعد كما تصعد الفقاعات… بسرعةٍ، وبدون وزن. لكن في بلد تُنتخب فيه الواجهات، تكون الفقاعات أحيانًا أعلى من القمم.
ولأن لكل مسرحية ذروتها، قرّر الرجل أن يُطلق مهرجانًا باسم “الفرح”، وكأن الفرح يُستورد كما تُستورد الخيام. في قلب المدينة، وعلى بعد خطوات من المسجد، نُصبت المنصة، وصدحت مكبرات الصوت تشق ليل السكان بنشاز بلا استئذان. فرق غنائية وراقصات يصعدن الخشبة بخفةٍ، ووجوه تلتقط الصور بلا حياء. لم يسأل عن أولويات الساكنة، ولا عن حاجاتهم المؤجّلة… فقط أراد أن ترقص صورته مع الشيخات في منصات الانبهار العام.
من ميزانية الجماعة دُفع، ومن جيب المواطن أُنفِق، وكأن المال العام مجرد وسادة وثيرة، يضع فوقها أحلامه المكبوتة، وينام مطمئنًا على ضجيجنا. في مدينتي، حين يصعد من لا ذاكرة له إلا جرحًا شخصيًا، تتغير قواعد اللعبة، يصبح الهدر مشروعًا، والوقاحة سياسةً، والكرسي منصةً لإخفاء ندوب الماضي. من كان بالأمس يتوسّل وظيفة، أصبح اليوم يقتحم الواجهة مزهوًّا برتبة “الرئيس”. صار له سائق، وحاشية، وخطاب مطّاطي عن الإصلاح.
الرجل نسف ما تبقّى من المنطق، ودخل نادي المحظوظين كمن يعود إلى بيته، لا لأنه عبقري أو صاحب رؤية، بل لأنه أتقن توزيع الوهم على العقول المنهكة. لم يحتج إلى ملفات ولا برامج، ولا إلى أكثر من عرض مسرحيّ متقن الإضاءة. هذه ليست قصة خيالية… بل فصل مملّ من واقع يتكرّر. ففي غياب المحاسبة، يصير الكذب سُلّمًا للصعود، ويصير رقص “الشيخات” عنوانًا رسميا لنجاح السياسات العمومية، كأن الفرح المؤقت قادر على إخفاء جراح المدن.
هؤلاء وحدهم، يحق لهم أن يفرحوا ويمرحوا. فمن لا يحمل مشروعًا تنمويًا، يُنظّم مهرجانًا، ومن لا يحترم المنصب، يحوّله إلى موسم للفرجة والصخب. إنها نماذج تُصنع في العتمة، وتُركب على أكتاف السُّذج كمنصات صاعدة نحو قمة القرار، حيث الجماهير المنهكة تُصفق… لا لنجاح السياسات، بل لأن الرقص صار عنوانًا لها. وفي نهاية العرض، لا شيء يتغير سوى الملابس… وديكور الواجهة.
وفي ختام هذا المشهد العبثي، لا يسعنا إلا أن نعود إلى حكمة خالدة لصاحب المدونة الكبرى، الإمام العلّامة سحنون، حين قال «أجرأ الناس على الفتيا، أقلهم علمًا». ولنا أن نضيف «وأجرأ الناس على السياسة في زمننا، أقلهم مروءةً وأخلاقًا»… هكذا يُتمُّ الواقع فتوى الإمام.