فاطــــمـــة الــــزيـــــانـــــي
فيم يفكر هذا العسكري المسكين ؟ وهل يستطيع أن يفكر ؟ قد يسرح عقله وينظر بعينيه الى أفق سور العمالة , ولكنه لا يستطيع أن يتخطى ذلك الحاجز . هذه البناية المخزنية هي شرنقته . إذا خرج منها سيموت حتما . هو إبن من أبناء المخزن كذلك , لا يجد مشكلا أن يكون جزءا لا يتجزأ من آلة القمع . التربية التي تلقاها في أحضان المدرسة العسكرية تساعده تماما على السمع والطاعة بلا نقاش وبلا تفكير. يشبه في ذلك تلامذة رجال الدين . هم كذلك يسلمون عقولهم للمسلامات من أول درس. ” سمعا وطاعة ” , ولا شيء غيرهما.
يقوم في الصباح الباكر يرتدي بذلته العسكرية وينتعل جزمة ثقيلة تعودت قدماه على حملها بالرغم من ثقلها. يحملها وتحمله. وفي الصيف تكون مرتعا للتعفنات والروائح النتنة. يأتي كل يوم الى مكانه بجانب الباب الحديدي ليصبح قطعة منه. يمسك ببندقيته مثلما يمسك طفل بلعبته المفضلة . البندقية فارغة من رصاصها , ولكنها تقوم بدورها التخويفي. الناس كالطيور يخافون من العسكري مثلما تخاف الطيور من الفزاعة .
حين وصلنا الى الدار الكبيرة , الى عمالة إقليم إكس . وجدنا أسطولا من سيارات الكات كات . سيارات يبدو من لوحات أرقام مؤخراتها أنها تابعة لمصالح الدولة . جرى وراءنا العسكري , الفزاعة قائلا بنبرة الشك : ” فين غاديين ؟ .. ” قطع كلامه مرور سيارة فخمة ذات مؤخرة وطنية كمثيلاتها . اعتدل في وقفته , ورفع تحية لا يعرف سواها ضاربا رجلا برجل . نظرت صوب رجليه وتذكرت رائحة العساكر أيام حراك الريف . حاولت أن أتذكر روائح التوابل وهي تطحن في سوق قديم , لأنني أعشق عبق التوابل وهي تنزل من أسفل الماكينة على شكل ذرات تتطاير في الهواء وتتسرب من التجاويف الأنفية لتتحول الى فكرة تحتفظ بها ذاكرة الروائح . حاولت ذلك , ووجدت نفسي أتذكر محسن فكري داخل طاحونة الأزبال في شاحنة بيزورنو . ياللهول . أعاد العسكري سؤاله بنبرة أقوى : ” قلت لكم فيين غاديين ؟ ” , لم ينتظر جوابا منا , وعاد الى مكانه . أكملنا دخولنا الى العمالة . ثمة حركة دؤوبة وغير عادية في كل مكان . جاء باتجاهنا عسكري آخر . وطرح نفس السؤال بنفس النبرة . أخرجت ورقة ومددتها إليه ليقرأها . أشار الى رجل جالس في ظل جدار يراقب بكل حواسه . لم يكلف نفسه عناء القراءة . دلفنا نحو الرجل الذي أشار إليه . مددت الورقة له . قائلة : ” من فضلك دعنا ندخل , لدينا موعدا مع السيد العامل . ” قرأ الموعد في الورقة وقال : ” ولكن السيد العامل , لديه اجتماع مع الناس ديال المنارة المتوسط … ” ضحكت بصوت مسموع . شزرني بنظرة قامعة . القامع غالبا ما يكون مقموعا , والمقموع لابد أن يصبح قامعا في أي نظام يقوم على التراتبية العمودية لدى المسؤولين . فكرت : “عن أية منارة يتحدث هؤلاء ؟ , المنارة الأولى التي يجب التعجيل ببنائها هي الإنسان . وتعبيد الطرق يجب أن يكون الى العقول أولا .”
سمح لنا بالدخول بعدما أكدنا له أننا مربون في التعليم الأولي . شعرت بشعوره. المربية لا شيء بالنسبة له. لا يمكن أن تفعل شيئا. أردت أن أؤسس في داخله نواة لشعور آخر . كنت أريد أن أقول له: ” انتظر يا عزيزي فأنت وعاملك هذا وكل الشخصيات التي تبدو لك أنت ذات قيمة , والوالي وكل الوزراء بما فيهم وزيرك مروا على يدي هاتين . أنا اللتي أشكل عجينة شخصيتهم التي سوف ترافقهم الى قبورهم … ” رفعت يدي أمام وجهي ونظرت إليهما مليا . أستطيع أن أقول ذلك وأكثر , ولكن لا فائدة من الكلام مع هؤلاء . إنهم عبيدا لأوامر أسيادهم ليس إلا .
كنا ثلاثة مربيات ومعنا مربي . دخلنا . جلسنا وكلنا يقين أن عامل عمالة إكس لن يعرنا أي اهتمام . البزنس أهم من كل شيء . تلقفنا كاتب الكاتب العام . أرسلنا الى الكاتب العام الذي أرسلنا بدوره الى كاتب مدير الديوان الذي أدخلنا قاعة لانتظاره . جلسنا مدة . سمعنا قرقعة الأحذية على البلاط , قرقعة تشبه وقع حذوات خيل داخل قصر مهجور . الناس يجيؤون ويذهبون . لديهم مشاكل عالقة . وسوف تظل عالقة , سوف ينعمون بكرم الضيافة في الدار الكبيرة بكؤوس من الشاي وكفى . نحن كذلك كرمنا . شربنا الشاي. بعدها جاء إلينا مدير الديوان الذي كان داخل قاعة الإجتماعات . قال لنا والتعب بادي على محياه : ” ما هي مشكلتكم؟ جاوبنا على مضض أربعتنا في صوت موحد وكأننا نرفع شعارا : ” نريد الدخول الى العامل” , ” نريد الدخول الى العامل . ” قال : بحال , بحال , قولوا المشكلة ديالكم … تنفس الصعداء وقال : ” السيد العامل خرج … ” خمنت أن سيادته ذاهب الى نيل شرف الغذاء مع أصحاب السيارات إياها . أما المشكلة فقد تغيرت الآن هنا , المسؤول الوحيد الذي يمكن أن يفعل شيئا لا نستطيع الوصول إليه . نظرت في وجه مدير الديوان . متذمر حتى النخاع . ليتني أتمكن من النظر داخله , هل من إنسان هناك؟. خرجنا . العمل لسنين طويلة مع الأطفال علمنا الصبر والبراءة والتمسك بما نريد الى غاية تحققه . الأطفال يعلموننا مثلما نعلمهم.ولكن من كثرة التعامل معهم ننسى أن العالم من حولنا قد تغير ولم يعد مثلما نعتقد . قد علقت به أوساخ كثيرة تراكمت الى درجة استحالة غسلها.
خرجنا . وصلنا الى نفس العسكري . ما يزال محله . وصلته أشعة الشمس . يحاول أن يستظل بظل شجرة واقفة وراءه بلا جدوى . الشجرة أعطت ظلها للجهة المعاكسة له . جهة الباب الداخلي للدار الكبيرة . عمالة إقليم إكس .