الغبزوري السكناوي
للمدن هويّة تعرف بها، غير أن مدينتي وُسمت بالفوضى وخُطّت على جبينها خرائط البشاعة، تركت تمشي كقاربٍ تائهٍ يتقاذفه مسؤولون بلا ذاكرة، أصبحت الفوضى سيدة المكان والزمان، عربات مجرورة ونقالة، أكشاك تتناسخ هنا وهناك، رُخَص تتناسل من فراغ، وشوارع تغرق في التشوّه، أينما وليت وجهك سيصادفك ارتباكٌ عمرانيّ، وذوق مقعد على كرسي البلاهة، منتخبون لا يرون أبعد من ظل حذائهم ولا يخجلون من القبحٍ الذي أصبح يملأ كل زوايا الحسيمة، فقد غدت المدينة كالغريق الذي تكدست فوق صدره الأحجار، مدينة لا تسير إلى المستقبل ولا إلى الماضي، بل هي مقعدة… أضحت بلا إسم، بلا ذاكرة، وأيضا بلا أهل.
تبدو الحسيمة وكأنها تُدار بعقلٍ يشبه قنينةً فارغة تطفو على مجرى الماء، عقل لا يعرف من تهيئة المجال إلا توقيع الرخص، ولا من الجمالية سوى تنميق محاضر الإجتماعات، فما إن نُقّحت “دفاتر التعمير”، حتى تحوّلت الشوارع إلى نسخة بئيسة من مدن “الريكشا”، روائح الوجبات السريعة تختلط بالطباشير، في العشوائية في هذه المدينة تُمنح لها شهادة حياة، ويُكافَأ التشوّه بشبكة ماء وكهرباء، مدينة ما أن تنفض فيها اللقاءات الرسمية حتى تعود إلى بشاعتها الأصلية، والدليل أنه لم يمضِ سوى “يوم واحد” على دخولنا نادي “أجمل خلجان العالم”، حتى لفظت مياه البحر زبد الصرف الصحي على شواطئ المدينة، وكأن البحر نفسه قرر أن يغسل وجه المدينة من مساحيق التجميل المزيف.
مدينتي تشبه تماما دماغ بعض مسؤوليها، لأنه يقال أن وجه المدن انعكاسً شفافً لعقل من يدبّر شؤونها، ولكن دماغ هؤلاء المسؤولين يبدو وكأنه مفرغ من الخلايا الحية، ومليء بمكعبات صماء لا تصلح إلا لبناء أساسات العبث، بسببهم تحوّل الفضاء العام بالمدينة إلى ما.يشبه مهرجانٍ دائم للعربات والأكشاك، ولا أحد يريد أن يربط هذا النبع الفياض من القبح بمن أذن به، عرباتٌ لها رخص قانونية، وتقام برعاية خطاب رسمي يزغرد بعبارات “تهيئة المجال”، “تعزيز الجاذبية” و”تجويد الفضاء العام”، خطب تُقال اليوم وتُنسى غدا، ثم يُترك للميدان أن يفسّر ما يحدث، حيث تصبح المدينة بمثابة تجمع عملاق لأكشاك تُشبه صناديق الإقتراع، هي أيضا تفرز لنا مدينة بلا هوية، بلا ضمير، وبلا أفق.
الشواطئ أضحت امتدادًا خشبيا ومعدنيا لأكشاك وعربات تبيع كل شيء، تبيع الذرة و”الكريب الهولندي” مرورا ب “مشروبات عجيبة” وقطع شواء لا نعرف هويتها، هكذا يتعثر زوار “جوهرة البحر الأبيض المتوسط” في عتبات البشاعة والقبح المرخّص له من طرف مسؤول نصف نائم، فكل ليلة تطل علينا الأكشاك كالأشباح، تطل من محيط المدارس، الملاعب، دار الشباب، المركبات الثقافية، المراكز الإجتماعية والرياضية، التجمعات السكانية، الساحات العمومية، الحدائق ومن الأرصفة… في هذه المدينة الفوضى أصبحت لها إقامة قانونية، فكل الفضاءات التي قيل أنها ستعزز جمالية المدينة وستمنحها رونقا أضحت مستباحة…والكورنيش الذي خُط ذات زمن تحول إلى شريط استعراضي لمشاهد من العبث والقبح.
الحسيمة باتت كحقل تجارب لمعنى الفوضى، أو أنها مدينة تمرّ بمرحلة تجريبية لإعادة تشكيل مفهوم المدينة، فهل رأيتم يومًا حيًّا سكنيًا أطلق عليه “القطب الحضري” يتحوّل إلى مجمع عربات ليلية؟ هل رأيتم مؤسسة لتعليم ما قبل الأولي ودارا للشباب تُحاصرهما أكشاك تقترح على الزبناء “خدمات غريبة” في انتظار نشاط ثقافي أو تربوي لن يُقام!! لا تتعجبوا، ففي الحسيمة يحدث كل هذا وأكثر، كل شبر بالمدينة ينطق بالمفارقات، كل رصيف وزقاق يئن من ثقل البشاعة، المدينة التي كانت رمزًا للنظافة والنظام صارت مستودعًا مفتوحًا لعربات تسائل من سمح ومن وقّع، فالرخص تتوالد كما تتوالد الجرذان في الأماكن الرطبة.
لا غرابة أن نعيش وسط هذا الجنون المُرَخّص له، لأن المدينة سقطت في شِراك المفارقات القاسية، حين قرر البعض تجميلها شوّهوا وجهها أكثر، وحين نقحوا “دفاتر التعمير” سمحوا بتصميم فضاءات لا هوية لها، وحين أرادوا تنظيم المجال احتفلت بالإحتلال، هوية المدينة أصبحت تُخدش، بل تُلَطَّخ، وللأسف لا أحد يقف في وجه هذا الإنحدار، المدينة تجرّ من خاصرتها ويجرّ معها كلّ ما تبقّى من المعنى، المدينة تُركت كالطفل اللقيط في زقاق النسيان، المدينة ابتليت ببعض المنتخبين هم أقرب إلى هيكل عظمي محفوظ في متحف للعظام… والنتيجة؟ فضاءات عمومية تنمو فيها البشاعة كما ينمو العفن على جبنٍ منسيٍّ في ركن مائدةٍ يغمرها نَفَسُ مُدمن خمر، لا يفرّق بين الطعم والرائحة.