بقلم: عبد العزيز حيون
انطلق النقاش العمومي والمؤسساتي، مع بداية الدخول السياسي، حول الانتخابات التشريعية القادمة، المقررة في أفق 2026، وهو نقاش مفتوح تكتنفه حمولة سياسية وتشريعية بالغة الأهمية وهو نقاش صحي في بعده الديموقراطي، دأبت عليه الساحة السياسية الوطنية خلال كل مرحلة تسبق الاستحقاقات ..
إلا أن نقاش هذه السنة بالذات قد يختلف عن نقاشات السنوات الماضية لأن الأحزاب المغربية وضعت هذه المرة في صلب الاهتمام وصلب القرار أكثر من أي وقت مضى ،ما يجعلنا نتساءل إن كانت أحزابنا أهلة الوجوب والأداء ومؤهلة لخوض الانتخابات المقبلة ،بعد 70 سنة من التجربة الديموقراطية في البلاد، لها ما لها وعليها ما عليها ..؟
قد يقول قائل إن مؤسسات الدولة والقضاء ومؤسسات الحكامة والمشرع هي أيضا مكون أساسي في منظومة الانتخابات د، ومساهمتها في إنجاح الاستحقاقات القادمة أساسية ولا محيد عنها ويجب أن تكون أيضا في صلب الاهتمام..وهو أمر صحيح، لكن الأحزاب السياسية لها دور استثنائي مهم يجب أن تطلع به دون أن تتبرر بحيثيات ليست ذاتية، فهي من جهة مشرع أساسي لكل القوانين والأنظمة بحكم تمثيليتها في المؤسسة التشريعية، وبالتالي نجاعة وعدم نجاعة أي تشريع لها اليد الطولة فيها، وهي من جهة أخرى المخاطب الرئيسي لمؤسسات الدولة بخصوص توفير الآليات المناسبة لخوض الانتخابات وتجديد النخب وتوفير الكفاءات وطرح البرامج الواقعية التي يمكن تحقيقها على أرض الواقع.
ومن تم من حقنا أن نتساءل إن كانت الأحزاب السياسية في مستوى الرهانات الديموقراطية القادمة وقادرة على ممارسة النقد الذاتي والموضوعي لرد الاعتبار للممارسة السياسية النزيهة، والمساهمة في الحد من عزوف الناس بمختلف فئاتهم عن السياسة..؟، وهل هي في مستوى تطلعات وثقة الشعب الذي يفقد الثقة في الساسة والسياسيين، عن وعي أو عن غير وعي من سنة لأخرى للأسف..؟، وهل هي قادرة على التجاوب مع الرغبة الملكية والحرص الملكي على ضمان الاستقرار السياسي والمؤسساتي وتطويره بما يعكس طموح أمة لها نحو 13 قرنا من الوجود المؤثر ..؟
والجواب عن كل هذه الأسئلة الجوهرية ،ونحن على بعد خطوات من الانتخابات، للأسف، قد يكون صادما لنا جميعا، وهو لا، لأسباب تتعلق بقدرة الأحزاب على إقناع المجتمع والمساهمة في بلورة حياة الناس بشكل إيجابي.. وهي التي تتبنى برامج متشابهة وخطابات سياسية لا تنفذ، في الغالب على أقل تقدير، الى عمق الإشكالات المجتمعية، ولا تقدم البدائل الناجعة، وتركز على عناوين كبرى مبتورة المعنى وعلى قضايا سطحية لا تساهم في حل المشاكل ولا تواكب المشاريع التنموية المهيكلة ..
كما أن الأحزاب المغربية، في المجمل، لا يهمها إلا “الربح العددي” لتتبوأ المكان الذي تراه مناسبا لها في المؤسسات المنتخبة على مختلف مستوياتها الوطنية والجهوية والمحلية، وبالتالي تكسب الأغلبية وتضمن المشاركة في حكومة ما قد يغيب عنها التوافق والتجانس ،لكن المهم هو أن تتوافق مشاركتها الحكومية مع مصالح “النخب” التي تمثلها والدلائل كثيرة وبادية للعيان ..
وأتمنى بكل جوارحي أن تكذب الأحزاب المغربية، على اختلاف تلويناتها، ما يراه الكثير من المحللين ومتتبعو الشأن العام وتضع ضمان الحكم الجيد والتدبير السليم للموارد ومشاركتها النزيهة والشفافة الاستحقاقات التشريعية لعام 2026 في سلم الأولويات، ومن تم الإنخراط الفعال، بعد الركود السياسي الصيفي، في إنجاح هذه التجربة الديمقراطية بروح من المسؤولية.. وهو أمر يدخل في نطاق واجباتها الدستورية من الجانب النظري.
أحزابنا السياسية أصبحت لها هياكل تنظيمية ضعيفة من حيث عدد من يؤثثها ومن حيث الفاعلية وهي لا تقوم في غالبيتها بالأدوار المنوطة بها في التكوين الداخلي وتأطير المجتمع وإفراز واستقطاب النخب ..كما أن تنظيماتها الشبابية والنسائية وروابطها المهنية أضحت تخضع ل”عقيدة” الولاء الشخصي “للزعيم” وهي وسيلة براغماتية لفئة غير قليلة لتحقيق الترقية الاجتماعية وتبوأ المناصب ..
وحتى الأذرع النقابية للأحزاب “الكبيرة” أصبحت مهترئة ومنخورة من الداخل في العموم وأهلكتها حركية وقوة التنسيقيات والمطالب الفئوية، ومنها من بدأت تحركها حسابات بعيدة كل البعد عن الأدوار التي كانت تطلع بها في أوج العطاء النقابي في المشهد الاجتماعي الوطني، يوم كانت هذه النقابات فاعلا اجتماعيا حقيقيا وقوة اقتراحية لا محيد عنها..
وحتى مطالب الأحزاب الآنية ،التي نسمع عنها هنا وهناك، تركز على التقطيع الانتخابي كحق أريد باطل أحيانا ،ليس لتساهم في تحقيق العدالة الترابية والمجالية والعدالة الاجتماعية في كل تمظهراتها واستغلال المؤهلات الطبيعية والبشرية الاستغلال الأمثل وتشكيل مؤسسات منتخبة قوية تتجاوب مع تطلعات الفئات العريضة من المجتمع وتوفر الخدمات الأساسية لهم في قطاعات حيوية مع الاعتماد على مبدأ القرب في تدبير الشأن العام، وإنما ما يهمها من التقطيع الانتخابي ونمط الاقتراع ،بدون تعميم تام، هو امتلاك أداة لتقوية حظوظها في مشهد سياسي عام يتميز بكثرة الأحزاب حتى حد “التخمة “، وبعد ذلك تشكيل أغلبية مريحة “متقاربة الأهداف” .
في اعتقادي محاربة الفساد الانتخابي مسؤولية بيد الأحزاب أساسا وتنطلق المسألة ممن تمنحهم الثقة وتزكيهم وتستقطبهم لتمثيلها في الاستحقاقات عوض الاعتماد على المناضلين الحقيقيين والكفاءات الواعدة، كما أن الأحزاب لا تولي أهمية في منح التزكيات للأشخاص الذين يستحقون من داخل تنظيماتها، كما لا تسعى لفتح المجال أمام كفاءات سياسية تشتغل من خارج إطارات الأحزاب والتي لا تلقى مكانا لها في الأحزاب وفي المقابل تلقى التهميش لأسباب يعرفها الكل ولا داعي للتفصيل فيها.
كما تنطلق مسؤولية الأحزاب، بالضرورة، في تطوير خطابها وتجويد برامجها الانتخابية بالاعتماد على أطرها ومتخصصيها وخبرائها عوض الاعتماد على الذكاء الاصطناعي ومراكز الدراسات التي لا روح في البرامج التي تعدها ولا تخرج عن نطاق البحوث العلمية التنظيرية، وغالبا ما يكون مضمونها عبارة عن فرضيات بعيدة كل البعد عن قضايا المجتمع وتجتر وعودا لا تلامس واقع الناس ولا حتى التطورات التنموية التي تعرفها المملكة، وتحمل شعارات منها ما لم يعد له معنى مع اندثار إيديولوجيات سياسية تحكمت في شرايين السياسة العالمية في مرحلة ما.
وفي هذا السياق،.أنا شخصيا، وأنا العارف من الداخل بواقع الأحزاب كقيادي سابق في تنظيم شبابي وازن في حينه وعضو بمؤسسات حزبية مركزية، لا أرى فائدة في توسيع عدد غرفتي البرلمان تحت ذريعة تعزيز مشاركة الشباب والنساء والكفاءات ومغاربة العالم وإدماج هذه الفئات في الفعل السياسي الجاد، فقد أثبتت التجربة أن اللوائح الخاصة بفئتي الشباب والنساء (الكوطا أو التمثيلية المضمونة) تكرس “الريع السياسي”، ليس إلا، وتشكل فرصة لإرضاء الخواطر ومكافأة المريدين وترقية أبناء “الزعماء” وإدخالهم عنوة في ممارسة السياسة من الباب المريح والولوج الميسر والسهل ..
وعوض هذه اللوائح ولربح الرهانات السياسية والتحديات الدموقراطية، لماذا لا تعتمد الأحزاب السياسية كوتا داخلية تمنح لكل فئة عددا معينا حتى تضمن تمثيلية “متوازنة”، عوض إثقال كاهل البلاد بمصاريف جديدة ،والبلد محتاج لكل درهم للرقي بعطاء قطاعات حيوية تعود بالنفع على المجتمع وتنتظره تظاهرات إقليمية وعالمية، مع العلم أن الهيئات المنتخبة لا تحتاج لكثرة البشر من محدودي القدرات الذهنية والعطاء العلمي وإنما تحتاج للنجاعة وللخبرات الوطنية المفيدة التي لا هم لها إلا خدمة الوطن والمواطنين ..
كما أن تجديد النخب يجب أن يكون من الداخل عبر وسائل وآليات وهياكل تنظيمية تلقن فيها أولا وقبل كل شيئ الوطنية الصادقة والعطاء الواثق، كما كان عليه الحال في الأحزاب الوطنية في عز عطائها، قبل أن تصبح في غالبيتها مجرد أكشاك ودكاكين انتخابية لمنح التزكيات واستقطاب أناس لا تربطهم بالأحزاب إلا الظرفية الانتخابية وأشياء أخرى قد لا نستوعبها نحن الذين تربينا داخل الأحزاب، ورحم الله من غرس في نفوس أجيال كثيرة الروح الوطنية ونكران الذات، وهم الذين قال الله تعالى فيهم “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.
وفي هذا السياق، كان مضمون خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش في يوليوز المنصرم، واضحا جدا ولا يحتاج الى كثرة التأويل والتفسير، فقد طالب الملك شخصيا وبصريح العبارة الأحزاب السياسية بتوفير فضاء الاشتغال الملائم للنخبة السياسية الحقيقية وفق معايير الكفاءة والاستحقاق التي تقتضيها الظرفية السياسية، بغاية استرجاع الثقة بين المواطن البسيط والفاعل السياسي،.والحد من عزوف الناخبين والتراجع المهول لنسبة المشاركة الذي يضعف شرعية العملية الديمقراطية، بالرغم من أن الأشواط التي قطعها المغرب تجعل منه النموذج في محيطه القاري والإقليمي .
والأهم في كل هذا، حسب جلالته، هو تخليق الحياة السياسية وترسيخ صورة المغرب كدولة ماضية في تدعيم المسلسل الديمقراطي، وكذا مساهمة الأحزاب السياسية في بلورة منظومة انتخابات نزيهة منضبطة للقوانين يتساوى فيها الجميع وتعزز المسار الديمقراطي برمته، في ظل رهانات اقتصادية واجتماعية لا تحتاج التأجيل وتفرض مساهمة الجميع بنفس القدر.
وفي كل الأحوال، المغرب سائر في التحول الإيجابي المرجعي والتغيير الناجع،.ولن ينتظر لا المؤسسات المدنية المتخاذلة ولا الأشخاص المترهلين .. فالأحداث والتطورات لا تنتظر، والفرص لا تدوم..