مع توالي السنين وتناوب مختلف الألوان الحزبية على الحكومات المتعاقبة، ظل المغاربة ومازالوا إلى اليوم يمنون النفس بأن يستيقظوا يوما على واقع آخر مغاير، من حيث حدوث ذلك التغيير الإيجابي الذي طالما انتظروه، ويرون المناصب والمراكز العليا تسند لمن يستحقونها عن جدارة واستحقاق في تدبير الشأن العام، من الذين هداهم الله للإيمان وتقدير جسامة الأمانة، القادرون على النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتلبية تطلعات المواطنين بحس وطني صادق وروح المسؤولية، دون أن تمارس عليهم ضغوطات من الشارع أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي، غير أن ذلك مازال بعيد المنال.
إذ لم تمر سوى أربعة أيام على خرجة رئيس الحكومة الإعلامية عبر ذلك اللقاء التلفزيوني العجيب، الذي بث في وقت واحد بالقناتين العموميتين مساء يوم الأربعاء 10 شتنبر 2025، وهو يعد من خلاله المواطنين بأن المستشفيات العمومية ستشهد قريبا ثورة حقيقية وتصبح أفضل بكثير من المصحات الخاصة، فإذا بمئات المواطنين من مختلف الفئات والأعمار يخرجون يوم الأحد 14 شتنبر 2025 في مدينة أكادير للاحتجاج على تدهور الوضع الصحي بالمركز الاستشفائي الجهوي الحسن الثاني، والتنديد بتردي الخدمات الصحية، الاكتظاظ، تأخر المواعيد الطبية والإهمال الذي تسبب في عدة وفيات، رافعين شعارات الشجب باستمرار الوضع الصحي على هذا الحال من الإهمال والاستخفاف من قبل وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، ويطالبون بإلحاح شديد إنصاف المرضى، تحسين ظروف الاستقبال وتوفير التجهيزات والأطر الطبية اللازمة…
فالاحتجاجات الحاشدة التي شهدتها مدينة أكادير ووصف خلالها السكان المستشفى الجهوي ب”مستشفى الموت” جراء توالي الوفيات غير الطبيعية، كانت بمثابة تلك الشرارة الأولى التي أشعلت نيران الغضب في باقي سكان المدن المغربية، حيث خرج المتظاهرون للتعبير عن امتعاضهم ومساءلة حكومة أخنوش عن”الدولة الاجتماعية” التي طالما تغنت بها، وعن تلك الأرقام والمنجزات التي يحاول دوما رئيسها أخنوش إيهام المواطنين بتحقيقها، في حين أن الواقع الصحي المتأزم يفند ذلك، ليس فقط بشهادة المرتفقين، بل حتى من طرف المهنيين أنفسهم، حيث تواصل أعطاب الأجهزة، الخصاص الصارخ في الموارد البشرية، غياب المعدات الضرورية، عدم احترام أوقات العمل، سوء الاستقبال وتراجع مستوى الخدمات الصحية، ناهيكم عن طول مدة المواعيد…
ولا يخفى على أحد اليوم تسارع وتيرة الاحتجاجات، إذ خرج المواطنون خلال هذه الأيام من شهر شتنبر عن بكرة أبيهم وفيما يشبه زخم “حركة عشرين فبراير” بسائر جهات وأقاليم المملكة، للمطالبة بإصلاح القطاع الصحي، والنهوض بالأوضاع المزرية التي تشهدها المستشفيات العمومية. وهو ما دفع بوزير الصحة والحماية الاجتماعية أمين التهراوي إلى مغادرة مكتبه على عجل، ليس لإيجاد الحلول السحرية التي عجز عن اجتراحها عشرات الوزراء من قبله، وإنما لمحاولة إطفاء نيران الغضب المشتعلة في الصدور والحفاظ على منصبه فيما تبقى من شهور عن نهاية ولايته، في انتظار أن يأتي الله بالفرج.
فعلى عكس سلفه البروفيسور خالد آيت الطالب الخبير بالقطاع الصحي، بدا أمين التهراوي القادم من عالم المال والأعمال غير ملم بأبجديات المنظومة الصحية، وأقل استعداد لمواجهة مشاكلها المتراكمة. ومع ذلك سارع مضطرا إلى القيام بتلك الجولات المكوكية غير الاعتيادية لعديد المدن، لاسيما أن لهيب الاحتجاجات لا يكاد يخبو في جهة من الجهات حتى يتأجج في أخرى، وقد كانت جولاته التفقدية السريعة كافية في جعله يقف بنفسه على الوضع الكارثي للمستشفيات التي زارها، ومن خلال الاستماع المباشر لشكاوى المواطنين المتضررين، والكشف عن الاختلالات التي لم تكن التقارير التي تصل إلى مكتبه تشير إليها، مثل غياب المراقبة الصارمة لسير المؤسسات الصحية، استشراء الفساد والرشوة، والنقص الحاد في الأطر الطبية والتجهيزات الضرورية…
وعلى خطى مدينة أكادير، عرفت كذلك مدن الناظور وبني ملال وتاونات ومراكش وغيرها احتجاجات صاخبة، ودعت فعاليات المجتمع المدني بإقليم طاطا إلى وقفة احتجاجية يوم الأحد 21 شتنبر 2025 ضد تردي الخدمات الصحية بالمستشفى الإقليمي، للمطالبة بتحسين الخدمات الصحية، ورفع الحيف والتهميش عن الساكنة التي تعاني من غياب الأطباء وتعطل بعض المصالح الطبية والتقنية، والتدبير السيء للقطاع الصحي بالإقليم، وانتهت جميعها باتخاذ الوزير الوصي حزمة من قرارات الإعفاء في حق عدد من المسؤولين والمندوبين في وزارته، والإعلان عن خطة طموحة لتعزيز قدرات المستشفيات العمومية، تشمل دعم الموارد البشرية وتحديث التجهيزات الطبية، وتحسين العرض الصحي بكافة المناطق…
ولأن ملك البلاد محمد السادس الذي ما انفك يولي القطاع الصحي اهتماما خاصا، سعيا إلى ضمان حق المواطن في الولوج إلى خدمات صحية عادلة وذات جودة، وتفعيل الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، والتدبير الجيد للقطاع بما ينسجم مع ورش الحماية الاجتماعية وتعميم التغطية الصحية، أدرك جيدا أن ورش إصلاح المنظومة الصحية أكبر من أن يتولاه الوزير الحالي أمين التهراوي القادم من عالم “البيزنس”، فإنه قرر تكليف صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن بمهمة الإشراف على هذا الورش الكبير، وكله إيمان قوي وثقة كبيرة في أنه سيكون في مستوى المسؤولية، وسيعطي درسا بليغا لمدبري الشأن العام في معنى قيادة الأوراش الكبرى بنجاح…
اسماعيل الحلوتي