مصطفى المنوزي
لم يكن سقوط السيد نزار بركة في لحظة ارتباك عابرة حين قدّم نفسه بصفته الأمين العام لحزب الاستقلال؛ بل كان سقوطًا رمزيًا في امتحان الوعي التاريخي، حين غابت المسافة بين صفة الزعيم وعبء الذاكرة. فالحضور هو من منحه الصفة، لا إرادته الحرة، وكأن الحزب ذاته – في تجلّيه الجمعي – هو من يطالبه بتسديد فواتير تراكمت منذ زمن بعيد.
لقد حاول نزار، وهو يتملص من المسؤولية الحكومية، أن يبرئ نفسه من حصيلة التدبير، غير أن الذاكرة السياسية لا تُنسى بسهولة. فالتاريخ الحزبي، بخيراته وأخطائه، لا يُمحى بتغيير المواقع أو تبديل الخطابات. ومن هنا يتجلى مأزق الزعيم: أن يتحمل تبعات مرحلة لم يعشها كلها، لكنه يرث نتائجها كاملة.
فحزب الاستقلال الذي كان في قلب الدولة منذ نهاية السبعينيات، خاصة من خلال حقيبة التربية الوطنية، ترك بصمات عميقة على مسار التعليم المغربي، بعضها إصلاحي، وبعضها الآخر مشوبٌ بالارتباك والتناوب غير المكتمل. كانت إضرابات 10 و11 أبريل 1979 في قطاعي التعليم والصحة نقطة انعطاف حاسمة، حين انكشف التناقض بين خطاب الإصلاح وممارسة الضبط، وبين إرادة التحديث وهاجس السيطرة. وقد أدى ذلك إلى قمع وتشريد فئات واسعة من رجال التعليم والصحة، ما جعل الحزب شريكًا في مسؤولية تاريخية لا يمكن محوها بالتقادم. مع تسجيل مكر الجغرافية السياسية ؛ حيث المطلب الإفتتاحي هو نفسه الصحة والتعليم ، وهو مطلب الشباب ؛ في حين تولت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل العناية بقضية غزة ، في إحالة إلى ذاكرة قضايا العراق وفلسطين عامة!
واليوم، حين يستعيد نزار بركة صفة الأمين العام، يجد نفسه أسيرًا لذاكرة حزبه قبل أن يكون ممثلًا له. فالمسألة لم تعد تتعلق بالقيادة فحسب، بل بالقدرة على تحويل الإرث إلى مراجعة، والماضي إلى وعي نقدي.
لكن هذا التحول ما زال غائبًا، لأن الحزب – مثل كثير من أحزابنا الوطنية – يعيش على “الحنين إلى الشرعية التاريخية” أكثر من انخراطه في مساءلة ذاته وموقعه من التحول الاجتماعي والسياسي.
لقد حان الوقت لأن يتحرر الزعيم من قدسية الرموز، وأن يتحول الحزب من حارس للذاكرة إلى صانع لمستقبلها. فالتاريخ لا يُغتفر بالسكوت عنه، بل بتملّكه بشجاعة وإعادة قراءته بعين النقد والمسؤولية. وبذلك فالتملص من المحاسبة الجغرافية أقحمه في المساءلة التاريخية .