*خالد البوهالي
قبل أيام، اعترف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في مقابلة مع صحيفة “Le parisien” الفرنسية، أن أوكرانيا لا تملك القوة الكافية لاستعادة مناطق دونباس وشبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا الاتحادية و أصبحت جزءا من التراب الروسي. ما يطرح السؤال حول الوعود التي قطعها زيلينسكي على نفسه أمام الشعب الأوكراني باستعادة هذه الأراضي بالقوة العسكرية.
هناك قاعدة ثابتة في الممارسة السياسية، تقول “لا ينبغي لرجل الدولة رفع سقف الوعود السياسية بناء على تصورات قد تبدو للوهلة الأولى ممكنة”، لكن يتبين لاحقا أنها لا تتماشى مع إمكانيات وحجم دولته، لأن التفاوت بين الوعود والإمكانيات لا يخدم الحاكم في الإيفاء بتعهداته، وبالتالي تتضرر مصداقيته وَتَهْتَزُّ صورته أمام الرأي العام الوطني، سيما في سياق صراع خارجي لا يحتمل إطلاق الوعود جُزَافاً دون فهمٍ دقيقٍ للواقع الدولي المتسم بالتعقيد والتشابك بين القوى الفاعلة في النسق السياسي الدولي، مع ما يتطلب ذلك من التخطيط الجيد، والتناسب بين الإمكانيات والخطط المرسومة لتحقيق الغايات المنشودة، لأن الصراع مسألة وجودية بالنسبة للكيانات السياسية، خصوصا في بيئة جيوسياسية معقدة وحساسة تتداخل فيها عوامل التاريخ والجغرافيا مثل الحالة الروسية الأوكرانية.
تعد الصراعات العالمية إحدى تفاعلات العلاقات الدولية بين الوحدات السياسية على المسرح العالمي، بِفِعْلِ تضارب مصالحها، غير أن ذلك لا يعني ديمومتها، إذا ما شعرت الأطراف المتصارعة في مرحلة مفصلية من الصراع، أن الأمور لا تصب في مصلحتها، فتلجأ إلى التسويات أو المساومات، أو تتم إعادة النظر فيه بحسب المتغيرات الداخلية والخارجية التي قد تؤثر في نتائج الصراع.
ولا يُسْتَثْنَى من هذه التسويات والمساومات، الصراعات التي تتم بالوكالة، إذ عادة ما تتم التضحية بالوكيل الذي يجد نفسه مُسْتَنْزَفاً على كل الصُّعُدِ في حربٍ لا قبل له بها، لأن القاعدة المسلم بها أن اللعب مع الكبار يؤدي حتما إلى طحن الطرف الأضعف في معادلة الصراع.
منذ اندلاع العملية العسكرية الروسية الخاصة في 22 فبراير/شباط 2022، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لا يُفَوِّتُ فرصة دون تكرار وعوده للشعب الأوكراني بتحقيق النصر واستعادة كل الأراضي التي سيطرت عليها روسيا بما فيها شبه جزيرة القرم بالقوة العسكرية، بانيا حساباته على الدعم الغربي غير المحدود لبلاده، الذي قد يكفل له الانتصار في حرب مع خصم قوي من حجم روسيا، دون مراعاة ميزان القوى العسكري، فضلا عن المتغيرات التي قد تطرأ في مواقف الدول الحليفة له من الصراع مع موسكو، الشيء الذي لم يأخذه زيلينسكي بعين الاعتبار و هو يخوض حربا بالوكالة عن الغرب.
لكن الذي حصل، أن الجيش الروسي واصل السيطرة على المزيد من الأراضي في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك وضمها إلى الاتحاد الروسي، في مقابل التراجع القهقري للجيش الأوكراني، ما يقضي على أي أمل في استعادة الأراضي من روسيا بالقوة العسكرية – باعتراف زيلينسكي نفسه – أو حتى الديبلوماسية من خلال التفاوض بسبب الموقف الميداني الصَّعب الذي يفقده أوراقا تفاوضية تمكنه من مساومة موسكو.
وحتى خطة النصر التي طرحها الرئيس الأوكراني على الدول الغربية في أكتوبر/تشرين الأول 2024، المكونة من خمس نقاط أهمها دعوة بلاده للانضمام إلى حلف الناتو، وتزويدها بالأسلحة اللازمة للدفاع عن نفسها، وإطلاق حملة ديبلوماسية لإنهاء الحرب لاستعادة ما فقدته في حرب روسيا، كانت ردود أفعال القادة الغربيين متباينة لسببين أولهما أن موارد بلدانهم تُسْتَنْزَفُ دون نتيجة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعانونها، و ثانيهما أن إحراز نصر مبين على روسيا أضحى مستحيلا في ظل الواقع الميداني الذي تفرضه موسكو حاليا. ما حدا ببعض الساسة الغربيين إلى فتح قناة حوار مع موسكو.
والأكثر من ذلك، تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الذي وعد خلال حملاته الانتخابية بوقف المساعدات نحو أوكرانيا، ودفعها للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع موسكو، لإيجاد تسوية تنهي الاقتتال بين الطرفين المتحاربين.
ففي مقابلة تليفزيونية أعرب زيلينسكي عن استعداده لبحث سبل السلام مع روسيا بما في ذلك التنازل عن 20 بالمائة من الأراضي التي سيطرت عليها موسكو، مقابل ضمانات أمنية غربية، وهو الذي ظل يرفض أي تنازل عن شبر واحد منها، أو حوار مع موسكو في وقت كانت قواته تسيطر نسبيا على الوضع الميداني، بل ووقع مرسوما يحظر على نفسه التفاوض مع موسكو طالما بقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين.
وأمام هذه المتغيرات السياسية والعسكرية، أصبح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في وضع صعب أمام شعبه فكل الوعود التي وعد بها الشعب الأوكراني تبخرت، ما جعل شعبيته تنخفض إلى 55 بالمائة، بحسب آخر استطلاع للرأي أجراه منذ أشهر معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع، إذ صرح العديد من المواطنين الأوكران أنهم فقدوا الثقة في رئيس بلادهم وفي مؤسساتهم السياسية بعد أن دب اليأس والملل إلى نفوسهم من الحرب دون أي أفق لحل نهائي لهذا الصراع الذي يقارب عامه الثالث.
في الختام، كان على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي التحلي بالعقلانية والواقعية بالتركيز على وعود قابلة للتحقيق وفق إمكانيات بلاده، وأن يفهم أنه ليس سوى أداة في يد القوى الكبرى، وأن الاصطفاف مع أحد الأطراف لا يعني تحقيق الأهداف الموعودة، لأن القوى العظمى تضع حساباتها وفق مصالحها في ظل اللعبة الدولية لتحقيق أكبر قدر من المنافع بتكلفة أقل، حتى ولو على حساب الطرف الأضعف.
*كاتب وباحث مغربي في الشؤون الروسية والدولية