الغبزوري السكناوي
في مدينتي، يبدأ الصيف دائمًا من البلاغ، لا من الواقع، اجتماعات موسمية، جلسات تنسيقية، ووعود مرقّمة بعناية، تُتداول على صفحات “الفايسبوك” وكأن المدينة تستعد لاستقبال العالم، لا مجرد صيف يتيم، الخطاب الرسمي لا تنقصه الأناقة، فقط تنقصه زيارة الشوارع… هناك حيث الواقع لا يتجمّل بل يتعرّى ويصرخ “كفى من الخُطب، نريد صرامة”.
أول ما يسمعه الزائر ليس هدير الموج، بل نداء “الخردة“، ذاك المذياع العتيق المتجوّل بمكبّر صوت أجشّ، يوقظ الرضيع، ويقصف سكينة المدينة كل صباح، يا تُرى، ماذا سيكون شعور السيد العامل، حسن زيتوني، لو دار هذا الصوت حول إقامته الهادئة في السابعة صباحًا؟ وماذا ستكون ردة فعله وسط نشيد العلب الصدئة؟
الساحات تحوّلت إلى ممالك لحراس السيارات، لا رخص، لا قانون، فقط سترة قديمة ووجه متجهّم يلزمك بأداء “إتاوة صيفية”، وبينما تتسع رقعة الفوضى، يخيّم الصمت من فوق، هل يدرك المسؤولون حجم العبث؟ أم صار التغاضي جزءًا من منظومة التدبير؟ وما الذي تبقّى من المدينة حين تصبح “السترة المتسخة” أعلى سلطة تنفيذية؟
الكارثة الأخرى، المفاتيح المتجولة، لا نتحدث عن مفاتيح التغيير، بل عن مفاتيح شقق مفروشة تُسلّم في العتمة وعلى الرصيف، بلا عقود، بلا ضمانات، فقط فوضى تُسعّر على مزاج الليلة، فسوق الكراء الصيفي يتحول إلى حفلة ارتجال تنتهي دائمًا بعبارة “تدبّر أمرك، فهذا موسم لا أحد فيه يُحاسب” جملة تختصر فلسفة السوق، ادفع، اصمت…
في الفنادق، “تجربة العملاء” تعني خوض تجربة وجودية فريدة، تدفع كما لو أنك في موناكو، وتبيت كما لو أنك في مخيم كشفي، مكيفات في إجازة، خدمة باردة، وابتسامة مشروطة بالحجز عبر منصة أجنبية، تطلب شيئًا؟ يُقال لك “إن شاء الله”، تطلب قنينة ماءً؟ تُقدَّم إليك كأنك تطلب امتيازًا ملكيا.
أما الفطور، فهو تمرين في التواضع الغذائي، رغيف بارد، قطعة جبن يتيمة، وشاي يتردد في الغليان، العصير أقرب إلى الماء من البرتقال، والطاولة نفسها تبدو كأنها خرجت من معسكر تدريبي للحرمان، صور الفنادق تلمع بعدسة الفوتوشوب… أما الضيافة، فلا تزال فكرة قيد التجريب.
في المقاهي والمطاعم، تُستقبل كأنك متهم لا زبون، النظرات فاحصة، واللهجة استنطاق، الأسعار تُخترع على الطاولة، والعصائر “كوكتيلات” بلا طعم، الأطباق تصل على مهل، والخدمة بين التجهّم والتجاهل، تدفع كثيرًا مقابل جوع أكبر وابتسامة غائبة.
الشواطئ؟ قطع محتلة، مظلات كأعلام دولية، كراسي تحاصر الممرات، وجمهوريات موسمية فوق الرمال، المواطن يبحث عن موطئ “فوطة”، فيُعامل كلاجئ في وطنه، البحر نفسه، بات يشعر بالإهانة، وقد حُوصر بين جشع الكراء العشوائي وسكوت المسؤولين، الشمس تشرق كل صباح، لكنها لا تملك تصريح دخول، فالشاطئ “مباع بالكامل”..
الميناء الترفيهي؟ نكتة موسمية تتكرر، قوارب بل هوية متراصة كعلب السردين، و”شناقة” يتنقّلون بين الزوارق في فوضى كاملة، المحيط الخارجي للميناء تحوّل إلى سوق حرة بلا قانون، هل ننتظر الغرق لنسمع العبارة الجاهزة: “لم نكن نعلم”؟ الكل يعلم… لكن لا أحد يعترف.
أما المتسولون، فصاروا طقوس استقبال يومية. ينتشرون عند أبواب الفنادق والمقاهي، يلحقون بالزوار كأنهم موسم صيد، يطلبون “مساهمة”، ومن يرفض… تُصبّ عليه الأدعية الثقيلة، هل نلومهم؟ أم نلوم مدينة تخلّت عن النظام ووهبت وجهها للفوضى؟
ومن علامات التمدن الغائب… المراحيض العمومية. في الشاطئ كما في المدينة، الحاجة البسيطة تتحول إلى مأزق، قيل ذات يوم إن المدينة زُوّدت بمراحيض “ذكية”، لكن لا أحد رآها تشتغل، ولا أحد يعرف هل العيب في الذكاء أم في من قرر أن “يضعها في سبات دائم”، ما فائدة مرحاض ذكي إذا كان المواطن يُضطر أن يشرح لجسده معنى الانتظار!
وأخيرًا… الكلاب الضالة، جزء من الديكور الصيفي. تتوسّد عتبات الفنادق وتعقد مؤتمرات نباح ليلية تحت نوافذ الزوار، مشهد سياحي لا ينقصه سوى تصريح من رئيس البلدية، ما الذي يشعر به وهو يتخطى رقابها في طريقه إلى شارع المتنبي أو نحو الفنادق المصنّفة، تلك التي تستقبل الزوار على إيقاع النباح كشكل ميتكر لتعزيز جاذبية العرض السياحي بالمدينة.
السياحة ليست شعارًا على ملصق، ولا صورة في كتيّب، إنها سلوك يومي، يبدأ من عامل النظافة وينتهي عند رئيس المجلس، يكفي أن تُحرَّر الأرصفة من الاحتلال، وتُراقَب الفنادق والمطاعم بصرامة، وتُحارَب التشوهات من الكلاب الضالة إلى فوضى السترات، السياحة تبدأ بابتسامة نادل، وتنمو باحترام الزائر، وتُثمر حين تسكن المدينة ضيافتها حقًا،
كان من الممكن أن يكون الترويج أكثر صدقًا لو التُقطت صورة للسيد العامل يتناول شواية سردين مع البيصارة في ساحة فلوريدو، بين أطفال الحي، أفضل من التقاط صورة له مع “مستثمر سياحي” قد يكون قادما من الجزر الجعفرية.
كان أجدى بالبرلمانيين أن يشربوا “أتاي” مع “السفنج” و”التشورو” في الأسواق الشعبية بدل طرح الأسئلة البرلمانية التي لا يعرف أهل المدينة هل تُطرح عنهم أم عن مدينة تشبههم في الاسم فقط.
أما البروفيسور نجيب الوزاني، فلو نزل إلى الشارع بسرواله القصير، وجلس في حديقة 3 مارس يقضم كوز ذرة… لروّج للمدينة أكثر من ألف بلاغ رسمي، فأحيانًا صورة واحدة أصدق من ألف شعار، صورة بلا منصة، بلا كاميرا محترفة، بلا ترتيب للبؤرة والضوء، فقط مسؤول يتنفس هواء الناس، ويتقاسم معهم النبض.