الغبزوري السكناوي
سنة 2011، حين كنتُ على رأس التجربة الإعلامية المتواضعة “أصوات الريف”، واكبت مع زملاىي في هيئة التحرير، جزءًا من النقاش الذي تفجّر مع حركة 20 فبراير. حينها خصصنا عددًا من الملفات والافتتاحيات التي سلّطت الضوء على غضب الشباب من استمرار الفساد والمفسدين في إدارة الشأن العام، وعلى الحاجة إلى تجديد النخب، وإفراز مؤسسات تعكس فعلاً نبض المجتمع، لا مجرد صورة باهتة لنظام انتخابي رتيب. كنا نؤمن أن التغيير ممكن، وأن المغرب يمتلك رصيدًا بشريًا شابًا يمكنه أن يصنع الفارق إذا أُتيحت له الأدوات والفرص.
اليوم، بعد أكثر من عقد على تلك اللحظة، يبدو أن التحذيرات التي أُطلقت وقتها لم تُسمع كما ينبغي. فالمؤشرات الاجتماعية والسياسية تكشف عن فجوة متزايدة بين الشباب والمؤسسات، وعن تآكل الثقة في جدوى المشاركة، سواء في الانتخابات أو النقاش العمومي. لم يُستثمر الحماس الذي تفجّر سنة 2011 في بناء وعي مؤسساتي حديث، بل تُرك الشباب يواجه واقعًا بطيء التحول، وإدارات لا تُصغي بما يكفي، وسياسات لا ترى في الطاقة الشبابية سوى ملف عابر في الخطابات الرسمية.
لم يكن شباب 20 فبراير متمرّدًا عبثيًا كما صوّرته بعض القراءات السطحية، بل كانوا يبحثون عن كرامة سياسية واقتصادية، وعن معنى جديد للمواطنة. واليوم، جيل Z يحمل ذات التطلعات لكن بلغة مختلفة وأدوات رقمية أكثر جرأة. إنهم أبناء الثورة الرقمية، يعبّرون عبر الشاشات، لكن احتجاجهم لا يقل عمقًا عن الهتافات التي ملأت الساحات قبل أربعة عشر عامًا. الفارق أن هذا الجيل فقد الثقة في الوسائط التقليدية، وصار يصنع عالمه الموازي بعيدًا عن المؤسسات.
لقد زُوّجت السياسة بال”بزنس”، فولدت حكومة المقاولة. ظنّوا أن تدبير الدولة يشبه تسويق منتوج أو إدارة علامة تجارية، واعتقدوا أن الانفتاح على الشباب يكون عبر وزراء ال “طوطو” وبهلونيات “مهبول أنا…غادي فالأطوروت”، أو عبر برامج إعلامية سطحيّة مثل “رشيد شو” و”لالة العروسة”. لكنهم صنعوا جيلاً ناقمًا، غاضبًا، ساخرًا من كل شيء؛ جيلًا لا يخاف من الشارع ولا من الفراغ، لأنه وُلد وسطهما.
سطوة المال دمّرت قيم السياسة، والاعطاب سارت في شرايين كل مؤسسات الوساطة السياسية والمدنية. لم تعد هناك أحزاب بل مقاولات انتخابية. والجيل الجديد، جيل Z، لم يعد صامتًا ولا خائفًا. خرج ليحتجّ بقوة، ويهتف ضد الفساد وليس ضد الدولة، يطالب بمحاسبة المسؤول قبل المواطن، بإصلاح المدرسة قبل الملعب. إنه الجيل الذي يرى أن من يدوس على المدرسة والمعلم سيدوس كذلك على الوطن.
ما نعيشه اليوم يمكن أن نطلق عليه “الربح الديمغرافي الضائع”. فبدل أن يكون الشباب رافعة للنمو والإبداع والإصلاح، أصبح كثير منهم يشعر بالعزلة واللاجدوى. ملايين العقول في الجامعات وفي سوق العمل الهش تُهدر دون أن تجد موقعها في المشروع الوطني، وكأننا لم نتعلم من دروس 2011 أو من الحركات الاحتجاجية السابقة. هذا الفائض الديمغرافي الذي كان يفترض أن يُترجم إلى قوة إنتاجية، تحوّل إلى كتلة قلق اجتماعي تتغذى على الإحباط.
من المفارقات أن الخطاب الرسمي ما يزال يستحضر الشباب في المناسبات الكبرى، لكن دون أن يمنحهم موقع الاهتمام الحقيقي. تُصاغ الاستراتيجيات من فوق، وتُعرض البرامج بصيغ جاهزة، بينما تظل الفئة الأكثر عددًا في المجتمع في موقع المتفرج. جيل Z لا يطلب امتيازات، بل يطالب فقط بأن يُعامل كشريك، لا كموضوع للدراسة أو المراقبة. إنه جيل يبحث عن معنى جديد للثقة، عن مؤسسات تُصغي أكثر مما تُلقن.
لقد خسرنا عقدًا من الزمن في الدوران حول الأسئلة نفسها التي طرحها شباب 2011: من يمثل من؟ ومن يحاسب من؟ وما جدوى الديمقراطية إن بقيت دون أثر في حياة الناس؟ ومع ذلك، لم يفت الأوان. فجيل Z، رغم يأسه الظاهر، ما يزال يحمل بذور الأمل نفسها. فقط يحتاج إلى أن نفتح له المجال، لا أن نحاصره بالتوجس.