وَاليأسُ إحدَى الرّاحَتَينِ، وَلَنْ تَرَى ………تَعَباً كَظَنّ الخَائِبِ المَكْدُودِ
البحتري
الغبزوري السكناوي
في الوقت الذي كان فيه قادة حزب التجمع الوطني للاحرار يترنحون ويرقصون فرحا، بأكادير، على ايقاع أغنية “مهبول أنا غادي فلوطورت”، للفنان محمد لزعر، المعروف ب “لازرو”، كان المئات من القاصرين والشباب المغاربة يتجهون عبر الأحراش والغابات نحو شمال المملكة، وبالضبط إلى مدينة الفنيدق، في محاولة للهجرة الجماعية عبر باب سبتة المحتلة.
فما أن انتهى السيد عزيز أخنوش، ورفاقه من أعضاء المكتب السياسي ووزراء الحزب، يوم 14 شتنبر الجاري من محاولة توزيع بعضا من جرعات الأمل حول الدولة الإجتماعية، حتى أتى الرد، فورا، وبدأ في اليوم الموالي المئات من الشياب والقاصرين يزحفون على شمال المملكة في هبة جماعية، ومن كل صوب وحدب، استجابة للنداء المجهول الذي يدعو إلى الهجرة واقتحام سبتة.
“مهبول أنا غادي فلوطوروت” كان تعبيرا صادقا، وبكل المقايس، عما يعتمل داخل الساحة السياسية، الإجنماعية والإقتصادية، نعم، الجميع “غادي مهبول” في زحمة هذه الحياة، الكل تقريبا بلا بوصلة وبلا هدف، والجميع تشمل هؤلاء الشباب الذين أثقلتهم الحياة بما لا يطاق، وكذلك السياسيون الذين يريدون “صنع” الأمل ولو بالرقص على أغاني “الراي”، وعلى بعد أيام فقط من الفيضانات التي حصدت 18 قتيلا جنوب المملكة.
هذا المشهد السريالي الذي جمع “المهابيل” في طريق “اللوطوروت”، هو في الحقيقة نابع من العمق المغربي، وبالضبط من عمقه السياسي، مشهد صادق وإن جمع “مهابيل” هي على طرفي نقيض من بعضها البعض، فلكل واحد من هؤلاء هَبَالَته الخاصة، لأن السياسيين الذين شاهدناهم في أكادير هبالتهم تختلف، حتما، عن تلك التي دفعت هذا الكم الهائل من الشباب الذي استجاب لنداء التحريض على الهجرة الجماعية، والعبور نحو إسبانيا عبر ثغري سبتة ومليلية المحتلين.
نعم، “لهبال فيه وفيه”، هناك من هَبِلَ بسبب ظروف البطالة، غلاء المعيشة، غياب الكرامة، تدني مستوى التعليم والتكوين، وضعف خدمات التطبيب، وهؤلاء هم في الغالب شباب لا يرى في سلوك السياسيين سوى أمل يتبدد ويأس يتجدد، وبالمقابل هناك “مهابيل” لا يدخرون جهدا في إضعاف “رابطة الإنتماء” ومضاعفة منسوب الإغتراب داخل وطن لا مستقبل فيه سوى لشيء واحد، ووحيد، وهو الفقر كما قال المهدي المنجرة رحمه الله.
شباب “مهبول” في الأحياء الشعبية، الجبال والقرى، في الشوارع والطرقات، في المدارس والكليات، في الحقول والمعامل، شباب أصيب بخيبة أمل في الإصلاح وانبعاث وطن يستظل فيه الجميع بغمائم الأمل والثقة بدل صحاري اليأس والشك، شباب فضل إطعام الأسماك والبحار بأجساده عوض البقاء في وطن لا يعي أهمية “العائد الديمغرافي”، ولم يدرك الفرصة التي يمكن أن يوفرها، هذا العائد، في مجال التنمية.
طبعا هؤلاء “المهابيل” من الشباب غير راضين عن السرعة التي يسير بها المعرب، يحدث هذا حتى وإن ادعى أخنوش الزيادة في ال”volume”، ولعل الإختلاف حول هذه السرعة هو الباعث الحقيفي على القلق والتوتر، لأنه حتى وإن كانت هناك مشاريع عملاقة على مستوى التجهيزات والبنيات التحتية فثمة شعور يؤسس للإغتراب السياسي والإجتماعي، ويتعلق بما يسميه عالم السياسية الأمريكي Ada Weintraub Finifter ب “انعدام القدرة” و”انعدام المعنى”
وإذا كان المنطق يؤكد بأن هؤلاء “المهابيل” المهملون، الحالمون أو الهاربون قد وقعوا ضحية عصابات موافع التواصل الإجتماعي، وأن مؤامرة جيران السوء في هذه الوقائع، ربما، لا تخطئها العين، فإن التفاعل السليم يفرض علينا أن ينصب التحليل، وبعده العمل، على السلاح المستعمل، نعم، لأن هذا السلاح يوجد بيننا وفي عقر دارنا، إنه الإحباط الجماعي، فالشخص الذي يفضل تقديم جسده طعاما للأسماك يمكن أن يكون وقودا للنيران، وللأسف كَيْفَمَا كانت هذه النيران.
إذن خطورة الوضع لا تكمن في انسحاب رجل السياسية، ولا في الصمت الذي أبداه تجاه ما يحدث، وإنما في تراجع مساحة اشتغال المثقف وعالم الإجتماع، وتكمن أيضا في هذا الصمت الجماعي تجاه ظواهر لا يرصدها الباحث ولا الإعلام، والأخطر في كل هذا لم ندرك، لحد الساعة، أننا أمام جيل أضحى لديه اليأس “إحدى الراحتين” بتعبير الشاعر البحتري، أي أن اليأس والموت عند جيل اليوم هو سواء بسواء.
جيل اليوم أصيب بالخيبة بسبب إفراط السياسيين في المزاح، بل ومن إفراط بعضهم في النهب واستغلال النفوذ، اختلاس المال العام، التهرب الضريبي، الإفلات من العقاب… إفراط سيتحول مع الزمن إلى قنابل موقوتة، وسيسهم في تغذية احتجاجات من الهامش و”خارج الإطار”، وسيعمق “مغرب التفاوتات”، كلها مظاهر وظواهر تزيد من الخيبة التي وصلت إلى الحد الذي غدت فيه تهدد “الأمن القومي” للبلد.
المسار الصحفي، العدد 571