في سياق عودة الحديث عن عقوبة الاعدام والحديث عن نية المغرب التصويت لصالح منعها، نعيد نشر هذه المقالة التي كتبها كل من عبد العلي حامي الدين، الأستاذ الجامعي والرئيس السابق لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان، والمحامي الراحل عبد اللطيف الحاتمي، ونشرت قبل أربع سنوات.
نص المقال:
موضوع عقوبة الإعدام بين الإبقاء والإلغاء من المواضيع الإشكالية الكبرى المطروحة على طاولة الحوار بين الحقوقيين ورجالات القانون في العالم.
وقد سبق لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان أن خصص عدة حلقات علمية لمناقشة هذا الموضوع، وقدم بصدده أطروحة ثالثة لا تستسلم لإبقاء هذه العقوبة بالشكل الذي هي عليه الآن، و لا تساير مطالب الإلغاء الكلي لهذه العقوبة من التشريع الجنائي.
إن هذه العقوبة التي عرفتها البشرية منذ الأزل وأقرتها الديانات الثلاث وتبنتها تشريعات معاصرة، يتداخل فيها البعد الحقوقي بالبعد القانوني بمدارسه المختلفة، بالإضافة إلى البعد الديني وتأثيره في صياغة نظام الجرائم والعقوبات في مختلف الحضارات والثقافات.
غير أن هذه العقوبة أصبحت اليوم محل خلاف عالمي تعيشه العديد من الدول حيث تتجاذبها ثلاث اتجاهات تتراوح بين:
– دول تبنت الإلغاء الكلي لعقوبة الإعدام (98 دولة بالنسبة لجميع الجرائم + 8 دول بالنسبة للجرائم العادية).
– دول أبقت على عقوبة الإعدام مع التنفيذ (57 دولة من بينها: اليابان، الولايات المتحدة الأمريكية…).
– دول أبقت على عقوبة الإعدام مع وقف التنفيذ مثل حالة المغرب (36 دولة).
ومن البديهي أن يرتبط النقاش الدائر حول عقوبة الإعدام بمفهوم أساسي من مفاهيم حقوق الإنسان ألا وهو الحق في الحياة.
ويلاحظ أن المطالبين بالإلغاء على الصعيد الدولي يراعون الدعوات الرامية إلى الإلغاء التام لعقوبة الإعدام والحرص على الحق في الحياة بالنسبة للجناة، أما المطالبين بالإبقاء فإنهم يستهدفون الدفاع عن الضحايا وعن حقهم في الحياة كما يراعون فلسفة القانون الجنائي الرامية إلى زجر الجناة والحد من الجريمة بالإضافة إلى استحضار التوجه الثقافي الغالب داخل المجتمع، دون إنكار دور أحكام الشريعة بالنسبة للمسلمين.
نستهدف من وراء هذه المقالة إلى إثارة الانتباه إلى ضرورة فتح نقاش وطني معمق حول هذه الإشكالية بعيدا عن كل محاولة سطحية لاختزال الموقف الحقوقي في مطلب الإلغاء الشامل لهذه العقوبة من التشريع الجنائي بدون تمحيص ولا تدقيق..
إن ملامسة الموضوع من زاوية القانون الدولي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الأساسية ذات العلاقة، ومن زاوية التشريعات الوطنية المقارنة، يمكن أن ينتهي بنا إلى بلورة أطروحة ثالثة، تتميز بالواقعية والقابلية للتطبيق، وتحترم الالتزامات الدولية للمغرب في مجال حقوق الإنسان، فضلا عن كونه تضمن الحق في الحياة للجميع.
المواثيق الدولية وجدلية الحق في الحياة وعقوبة الإعدام
إن صياغة العديد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية جاءت منسجمة مع قاعدة التوازن بين التنصيص على مبدأ الحق في الحياة مع تقييد عقوبة الإعدام بمجموعة من الشروط والضوابط.
وهكذا نصت المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في فقرتها الثانية على أنه: ” لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة وفقا للتشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة وغير المخالف لأحكام هذا العهد …”
وفي هذا السياق ذهبت لجنة حقوق الإنسان في تعليقها على المادة 6 من العهد المشار إليه إلى تفسير دقيق بقولها : “مع أنه يستنتج من المادة أن الدول الأطراف ليست ملزمة بإلغاء عقوبة الإعدام إلغاء تاما، فإنها ملزمة بالحد من استخدامها، ولا سيما بإلغاء الحكم بها إلا في حالة ارتكاب “أشد الجرائم خطورة” لذلك ينبغي لها أن تفكر في إعادة النظر في قوانينها الجنائية في ضوء ما سبق، وهي ملزمة، على أية حال، بقصر تطبيق عقوبة الإعدام على “أشد الجرائم خطورة” ،و قد فسرت اللجنة لاحقا الجرائم أشد خطورة على أنها الجرائم “المتعمدة التي تسفر عن نتائج مميتة أو نتائج أخرى بالغة الخطورة” واعتبر المقرر الخاص المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القانون أو بإجراءات موجزة أو الإعدام التعسفي، أنه ينبغي أن تعتبر لفظة “المتعمدة” معادلة لسبق الإصرار وينبغي أن تفهم على أنها نية القتل المتعمد.
نفس التفسير ذهبت إليه الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية إذ نصت في المادة 2 منها المتعلقة بالحق في الحياة على أن “القانون يحمي حق كل إنسان في الحياة. ولا يجوز إعدام أي إنسان عمدا إلا تنفيذا لحكم قضائي بإدانته في جريمة يقضي فيها القانون بتوقيع هذه العقوبة. ”
كما أن الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في مادتها الرابعة تبنت نفس التوجه بتنصيصها على أنه “لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام أن توقع هذه العقوبة إلا على أشد الجرائم خطورة وبموجب حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة ووفقا لقانون ينص على تلك العقوبة، ويكون نافذا قبل ارتكاب الجريمة”.
يستنتج مما سبق أن عقوبة الإعدام لم تحظر بشكل مطلق من طرف القانون الدولي لحقوق الإنسان، غير أنه تم التأكيد في حالة عدم الإلغاء على وضع ضوابط وشروط لتطبيقها..
إن هذه الخلاصة لا تتغاضى عن كون أجهزة وهيئات الأمم المتحدة العاملة في مجال حقوق الإنسان، بما في ذلك مجلس الأمن واللجنة المعنية بحقوق الإنسان والجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، قد عبرت بوضوح عن الرغبة في إلغائها في قرارات ومناسبات مختلفة، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة تحول تدريجي داخل الأمم المتحدة يشجع على إلغاء عقوبة الإعدام. وقد تجلى هذا التوجه في اعتماد البرتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
لكن هذا التحول لم يصل بعد إلى درجة التقعيد القانوني الملزم لجميع الدول، وهو ما يعطينا الحق في تأصيل أطروحة ثالثة تنسجم مع المعايير الأساسية لحقوق الإنسان وتبقي على عقوبة الإعدام في الجرائم الخطيرة وفق ضوابط وشروط دقيقة.
إن الإيمان بتعدد التشريعات الوطنية في هذا الباب هو الذي جعل لجنة حقوق الإنسان تصدر مجموعة من القرارات، ومنها القرار رقم 12/1997 المتعلق بمسألة عقوبة الإعدام، والذي تطلب فيه من جميع الدول “التي لم تلغ بعد عقوبة الإعدام أن تحد تدريجيا من عدد الجرائم التي يجوز المعاقبة عليها بتوقيع الإعدام” ودعت أيضا الدول إلى النظر في وقف تنفيذ عمليات الإعدام، كما وضعت معايير لتطبيق عقوبة الإعدام.
هكذا يتضح بما لا يدع مجالا للبس بأن المقصود من وراء التشريعات الدولية هو الإعدام التعسفي الذي يتم خارج نطاق القانون وبإجراءات موجزة.
ماذا عن عقوبة الإعدام في التشريع المغربي؟
ينص القانون المغربي على عقوبة الإعدام بالنسبة لعدة جرائم، ويتضمن القانون الجنائي ما لا يقل عن 36 مادة تنص على هذه العقوبة، كما ينص قانون العدل العسكري على هذه العقوبة فيما لا يقل عن 16 مادة..
لم ينفذ المغرب عقوبة الإعدام منذ سنة 1993، كما أن القضاء المغربي مقل في إصدار عقوبة الإعدام ويتعامل مع هذه العقوبة بكثير من التريث والاتزان، إذ يقل المعدل السنوي للأحكام الصادرة بالإعدام عن عشرة كل سنة، صدرت جميعها من أجل جرائم القتل العمد والجرائم الإرهابية المقترنة بالدم..
كما تجدر الإشارة إلى أنه قد تم تمتيع العديد من المحكوم عليهم بالإعدام بالعفو الملكي وذلك بتحويل هذه العقوبة لفائدة 267 محكوما عليه منذ سنة 1993 إلى غاية سنة 2013.
ولقد كان موضوع عقوبة الإعدام حاضرا ضمن فعاليات الحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، حيث نوقش هذا الموضوع ضمن محاور الندوة الجهوية الخامسة التي احتضنتها مدينة فاس يومي 9 و10 نونبر 2012 حول تحديث السياسة الجنائية وتطوير العدالة الجنائية وتعزيز المحاكمة العادلة وقد تبين من خلال النقاش الذي ساهم فيه مختلف المختصين من قضاة ومحامين وأساتذة جامعيين وحقوقيين أن هناك خلافا حقيقيا حول الموضوع، لكن أغلب المتدخلين كانوا مع إعادة النظر في لائحة الجرائم المعاقب عليها بالإعدام بغية تقليص استخدامه وليس مع الإلغاء بصفة نهائية من لائحة العقوبات.
3- الطريق الثالث
انطلاقا من كل ما سبق، وانسجاما مع ثقافة المجتمع المغربي المسلم الذي يستند في علاقاته الاجتماعية إلى المرجعية الإسلامية القائمة على العدل، وانطلاقا من حرص القرءان الكريم على معاقبة القتل العمد بالقصاص و جعل الحق في المطالبة بإنزال العقوبة على القاتل بيد ولي الدم حيث خوله حق العفو على القاتل بل رغبه فيه، وانطلاقا من ضرورة توفير الضمانات الكافية لاحترام المعايير الدولية للمحاكمة العادلة في القضايا التي يعاقب عليها بالإعدام على وجه الخصوص و بصفة أخص أمام المحاكم الاستثنائية و المحاكم العسكرية و في القضايا السياسية و قضايا الإرهاب التي يغلب فيها غياب تلك الضمانات، وانطلاقا من مقتضيات الفقرة الثانية من المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي يقضي بعدم جواز الحكم بالإعدام إلا لإدانة أشد الجرائم خطورة.
وانطلاقا مما تتميز به الجرائم الخطيرة عن غيرها من جرائم التعدي على النفس بعنصر القصد الجنائي الذي ينم عن نية الجاني في إزهاق روح المجني عليه و ما يتطلبه ذلك من إثبات قاطع تستخلصه المحكمة من أدلة دامغة لا يتطرق لها أدنى شك تكون ملزمة ببيانها في قرارها بيانا و مقنعا و ذلك تجنبا لأي عنصر من عناصر الارتياب سواء انطلقت قناعتها من اعتراف الجاني و يقينها التام بصدوره عن إرادته الحرة بعيدا عن كل إكراه، أو من شهادات عدة شهود عيان عدول و ثقات اتحدت جميع معطياتها وتضافرت لإثبات الواقعة بشكل قطعي.
و يقينا منه أن حكما بهذه الدقة و هذا الثبات لا يتأتى إلا من قضاء مستقل استقلالا تاما عن السلطة التنفيذية ولا يصدر إلا عن قضاة على قدر عالي من الاستقلال عن النفس الآمرة بالسوء و عن سلطة المال و مفاسده و عن تأثير سلطة الإعلام أو الرأي العام.
فإننا نطالب:
1) بإلغاء عقوبة الإعدام لإدانة المحاولة
2) وبإلغائها لإدانة المشاركة،
3) وبإلغائها في الجرائم السياسية،
4) وبإلغائها ضد الجناة القاصرين دون الثامنة عشرة ،
5) وبإلغائها ضد النساء الحوامل،
6) وبإلغائها في غير جرائم القتل،
7) وبإلغائها في جرائم القتل غير العمد،
8) وبإلغائها في جرائم القتل العمد إذا صدر عفو عن ولي الدم.
كما نطالب
بإقرار عقوبة الإعدام في جرائم القتل الخطيرة التي يقترن فيه العمد بسبق الإصرار و الترصد و الإعداد المحكم لإزهاق روح المجني عليه.
بشرط
1) صدور الحكم عن محكمة مختصة بإجماع أعضائها الذين لا يقدح في استقلالهم وعلى إثر محاكمة تتوفر فيها جميع شروط المحاكمة العادلة،
2) تأجيل تنفيذ عقوبة الإعدام في حق المحكوم عليه إلى ما بعد استنفاذ جميع طرق الطعن العادية و غير العادية،
3) تأجيل التنفيذ بعد ذلك إلى ما بعد رفض العفو الملكي،
4) تأجيل التنفيذ بعد ذلك إلى ما بعد تقادم العقوبة لاستبعاد الخطأ القضائي.
تلكم هي معالم الأطروحة التي ندافع عنها إسهاما منا في مناقشة موضوع عقوبة الإعدام وعلى ضوء النقاش العمومي الدائر.
د.عبد اللطيف الحاتمي
محام بهيئة الدار البيضاء
د. عبد العلي حامي الدين
أستاذ جامعي
الرئيس السابق لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان