الحركة المسرحية بمكناس… من الرواد إلى الانحدار : هكذا أصبحت مكناس خشبة لمسارح العالم إلا لمسارحها
عاشت مدينة مكناس سنوات الثمانينات والتسعينات، فترة ذهبية لفرقها المسرحية، الفترة التي غاب فيها الدعم العمومي من أموال دافعي الضرائب وحضر فيها الإبداع والدعم الجماهيري الشغوف بالمسرح، ما ساهم في سطوع نجم العديد من الفرق المسرحية المكناسية، كرواد الخشبة والمشعل وجمعية الحي لفنون المسرح…، وعندما نقول مكناسية، فهذا يعني تركيبتها المكناسية مائة بالمائة، من مؤلف ومخرج وممثلين وفريق عمل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يتجاوز عددهم أحيانا العشرين فردا، عكس ما نشاهده اليوم من فرق مسرحية هجينة، مكناسية المنشأ غريبة التركيبة، لا يتجاوز عدد أفرادها الفعليين شخصا واحدا أو اثنين، والباقي لاعبون محترفون ولاعبات محترفات، بعقود جوفاء.
احتضان مدينة مكناس، هذا الأسبوع لتظاهرة مسرحية اختير لها كشعار “مكناس خشبة لمسارح العالم”، من تنظيم جمعية الشامات لمؤسستها الفنانة المبدعة فاطمة عاطف، قبل أن تسقط بين يدي زميلها المخرج بوسلهام الضعيف، جعلنا نبحث في أعماق النشاط المسرحي بمدينة مكناس، وجذوره التاريخية و واقع حاله اليوم، لنكتشف أن الشعار الحقيقي الذي كان على منظمي هذه التظاهرة اختياره “مكناس خشبة لمسارح العالم، إلا لفرقها المسرحية”.
اختيارنا لهذا الشعار، يأتي من منطلق تقديمه لصورة تعكس بقوة وجلاء واقع الفرق المسرحية بمدينة مكناس اليوم، التي تم إقبارها، حتى أضحت المدينة بدون أي فرقة احترافية، عكس مجموعة من المدن المغربية الصغيرة التي شهدت خلال السنوات الأخيرة، تأسيس العديد من الفرق الاحترافية، دون حتى أن تستفيد من درهم واحد من المال العام للمجالس المنتخبة، كفرقتي الأفق ومحترف المسرح تاوريرت بمدينة تاوريرت، وفرقة “7آرت” من مدينة آزرو، وفرقتي ثفسوين ونادي الحسيمة للمسرح من الحسيمة، والعديد من الفرق المسرحية الحديثة البارزة اليوم من قلعة السراغنة والزمامرة وبن جرير، والجارة الحاجب كذلك …
مكناس التي كانت رائدة مسرحيا، مع فرقة رواد الخشبة الذائعة الصيت، والتي تعتبر مدرسة مرجعية بالنسبة لمختلف الفرق المسرحية التي تأسست حديثا، خفت إشعاعها المسرحي، وانقرضت فرقها الاحترافية، بالرغم من تعبئة وتوفبر دعم مالي ومعنوي كبيرين للغاية، وبمبالغ خيالية تقارب 200 مليون سنتيم خلال السنوات الثلاث الأخيرة، رصدتها الوزارة الوصية من جهة، والمجالس المنتخبة بالمدينة والجهة والبرنامج الحكومي “أوراش” والدعم الرمزي الكبير والقوي لسلطات العمالة، وهو الدعم الذي استفادت منه فرقة مسرحية وحيدة، ويتعلق الأمر بمسرح الشامات، دون أن يكون لذلك أي تأثير على الحركة المسرحية بالمدينة، ويساهم في بزوغ فرق مسرحية جديدة، على غرار ما تشهده العديد من المدن المغربية، لم يسبق أن خصصت مجالسها المنتخبة درهما واحدا لدعم الجمعيات النشيطة في مجال المسرح.
وللتعليق على هذا الموضوع، ربطنا الاتصال بأحد قدماء الحركة المسرحية بمدينة مكناس، والذي يعود تاريخ تأسيس فرقته المسرحية إلى سنة 1972، ويتعلق الأمر بالمسرحي إدريس بنو شان، أحد مؤسسي جمعية المشعل المسرحي، بمعية زملائه من خريجي شعبة المسرح بالمعهد الموسيقي البلدي بمكناس، الشعبة التي تأسست قبل تشييد المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط، والذي قال في تصريح لموقع مكناس بريس، إن تربة الحركة المسرحية بمكناس نشأت سنوات الستينات، والمطلوب اليوم النبش في هذه التربة وإعادة إحيائها لبزوغ فرق مسرحية جديدة، أو على الأقل تجديد الفرق المسرحية الأصيلة بمدينة مكناس، مع حرص الجماعة والمجالس المنتخبة على تضمن برامج أعمالها، لهذا الأمر وتقديم المنح والدعم اللازم لمواكبة الجمعيات النشيطة بالمدينة، مشيرا إلى أن الدعم الهزيل الذي كانت تقدمه الجماعة في وقت سابق، كان له دور في استمرار أنشطة مجموعة من الفرق المسرحية بالمدينة.
في السياق ذاته، أكد المسرحي كمان مصطفى، وهو أحد مؤسسي جمعية الحي لفنون المسرح، أن سبب غياب الفرق المسرحية الاحترافية بمدينة مكناس، يعود إلى عدم توفرها على داعمين بالعاصمة الرباط، أي بوزارة الثقافة، وبالتالي جل المشاريع التي تقدمها تقابل بالرفض، مع العلم أن النشاط الوحيد الذي يمارسه أعضاء الفرقة المسرحية التي ينتمي إليها، هو العمل المسرحي، ولديهم بطائق مهنية، الأمر الذي لم يشفع لهم للحصول على دعم الوزارة الوصية، الذي تستفيد منه جمعيات جل القائمين عليها موظفين، لهم زملاء في الوزارة، مضيفا أن توقف الجماعة عن تخصيص المنح السنوية للجمعيات، كان بمثابة آخر مسمار في نعش الحياة المسرحية داخل أحياء مدينة مكناس، “فعلى هزالته” يقول كمان، حيث لم يكن يتجاوز في أحسن الأحوال “مليون سنتيم سنويا”، إلا أنه كان يضمن استمرار هذه الفرق، ويتيح لها إمكانية تأطير مجموعة من الشباب والأطفال، الأمر الذي توقف منذ بداية جائحة كوفيد، في المقابل يتم دعم مهرجانات بسخاء منقطع النظير.
الواقع المظلم والبئيس الذي يعيشه المسرح اليوم بمكناس، يقبر تاريخا مسرحيا مجيدا للعاصمة الإسماعيلية، باعتبارها موطنا لأشهر المبدعين والمثقفين من مؤسسي الحركة المسرحية بالمغرب، من قبيل الراحل الدكتور المنيعي الذي كان يعتبر أحد قامات النقد المسرحي ومؤسس الدرس المسرحي بالمغرب، والدكتور عبد الرحمان بنزيدان الذي له إسهامات عديدة وأبحاث ومؤلفات أغنت الخزانة المسرحية المغربية والعربية، والمخرج الراحل أحمد بنكيران الذي وضع اللبنات الأولى لتجربة المختبر المسرحي بالمغرب والعالم العربي، فضلا عن العشرات من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط، الذين سطع ويسطع نجمهم في مختلف الأعمال الدرامية والسينمائية المغربية، سواء كفنانين أو كمخرجين، من قبيل الفنانة المبدعة فاطمة عاطف مؤسسة مسرح الشامات، والتي نالت بأدائها الفردي أولى وأكبر جوائز المهرجان الوطني للمسرح، والفنان إدريس الروخ، وزميله عبد الحق بلمجاهد، والفنانة وسيلة صبحي، وساندية تاج الدين ومحمود بلحسن… واللائحة طويلة لأسماء فنانين ومبدعين بإمكان كل واحد منهم أو مجتمعين تأسيس فرقة مسرحية احترافية، تعيد لمدينة مكناس توهجها المسرحي.