*بقلم فكري سوسان
قد تبدو هذه القصة وكأنها مأخوذة من رواية: لصّ تحركه رغبة النهب يقتحم شقة فاخرة في حي راق بروما. يبحث عن أشياء ثمينة ليأخذها، لكنه يعثر على كتاب. وبينما كان كل شيء عاديا في الغرفة، تتحول طاولة النوم إلى مذبح تنتظر عليه الأدب كغنيمة غير مقصودة. يتوقف اللص. يفتح الكتاب. ويبدأ في القراءة.
أما الباقي فهو جزء من التاريخ. لم يأخذ مجوهرات ولا مالا، بل كلمات. وعندما وصل صاحب المنزل، وجده جالسا، متعمقا في قراءة كتاب لجيوفاني نوتشيى GiovanniNucc، الآلهة عند الساعة السادسة. الإلياذة على موعد مع ساعة اللمجة (Glidèiallesei. L’Iliade all’oradell’aperitivo)ممسكا به بين يديه. لم يهرب على الفور، كما تملي قواعد السرقة، بل حاول أن يأخذ معه شيئا غير ملموس: ما يمكن أن تكشفه له صفحات الكتاب.
في عصر السرعة والاستهلاك والاستخفاف بالتأمل، ما الذي يجعل القراءة قادرة على إيقاف لص أثناء ارتكابه جريمة؟ الأدب، في جوهره، مرآة. يعكس لنا أنفسنا، حدودنا، رغباتنا ومخاوفنا. في تلك اللحظة، توقف اللص عن كونه رجلا يبحث عن شيء خارجي، وأصبح شخصا يستكشف عالما داخليا، مسترشدا بكلمات “الإلياذة”.
يقترح عمل نوتشي إعادة قراءة معاصرة للأساطير اليونانية، تلك الحكايات التي تحاول إعطاء معنى للفوضى الإنسانية. ربما، مثل هكتور أمام أسوار طروادة، واجه اللص لحظة حقيقة. كان هكتور يعرف أنه سيموت، وأن كل ما يحميه سيتلاشى، لكن في حواره الأخير مع هيلينا، وجد شيئا أعمق: ومضة من الشعر، من الهشاشة والجمال اللذين ينجوان حتى وسط الدمار.
في مجتمعنا، غالبا ما يعتبر فعل القراءة هواية نمارسها عندما يتم تلبية كل احتياجاتنا الأخرى. ولكن بالنسبة لذلك اللص، كانت تلك اللحظة توقفا عن دوامة الحياة. ربما حتى إنها كانت كشفا. تحدث الإغريق عن “التطهير”(catharsis)، تلك التجربة العاطفية التي تحدثها المآسي لدى الجمهور. في هذه الحالة، لعب الأدب دور الخلاص المؤقت، حتى وإن لم يكن كافيا لتجنب النهاية القانونية.
مفارقة القصة لا تفوت أحدا: رجل يوقف فعل التدمير ليدخل في فعل الإبداع. ما كتبه جيوفاني نوتشي للتفكير في الصراعات الملحمية القديمة أصبح، للحظة، درعا ضد فعل السرقة. في هذا الفاصل القصير، توقف اللص عن كونه لصا وتحول إلى قارئ.
هناك بعد إنساني عميق في هذه القصة. تذكرنا بأن حتى أولئك الذين يدفعون إلى هامش المجتمع يبحثون عن معنى، عن ارتباط، عن شيء يربطهم بواقع أقل قسوة. الأدب قد لا ينقذ العالم، لكنه قادر على كسر جمود الأرواح وإحداث تحول في اللحظات. وكما قال الكاتب فرانس كافكا: “الكتاب هو الفأس الذي يكسر الجليد المتراكم حول أرواحنا”. ربما اختبر اللص شيئا من هذا التحول، ومضة أضاءت روحه بما يكفي لينسى السرقة ويستسلم لنور الكلمات.
ونحن، الذين نقرأ هذه القصة، ينبغي علينا أن نتوقف أيضا. نسأل أنفسنا ما الذي نبحث عنه في الأدب، وما الذي نجده عندما تهمس لنا الكلمات أسرارا من عصور قديمة لا تزال تنتمي لنا. ربما، مثل هذا اللص، يجب علينا أن نسلم أنفسنا في كثير من الأحيان لتلك اللحظة، ذلك الصمت الذي يخمد ضجيج العالم، حيث لا يبقى سوى الحقيقة التي تنبض بين الصفحات.
اللص، مثل الفارس المتجول (caballero andante)، وجد في الكتاب رفيق دربه، وكما قال دون كيشوت: “من يقرأ كثيرا ويسافر كثيرا، يرى كثيرًا ويعرف أكثر”.
*أستاذ بجامعة محمد بن عبد الله بفاس