محمد كرم
سؤال ضمن أسئلة أخرى : لماذا كان أداؤنا الرياضي ضعيفا في الألعاب الأولمبية الأخيرة ؟
جواب ضمن أجوبة أخرى : كان الأمر كذلك لأن التاريخ بشقيه القريب و البعيد علمنا بأن التخلف ـ شأنه في ذلك شأن الازدهار ـ حالة حضارية معدية من الطبيعي أن تطال كل أوجه الحياة داخل مجتمع معين. و عليه، لا يمكن للرياضة أن تشكل استثناءا بين باقي الأنشطة و تنتصب كشمعة مضيئة وسط ظلام البيئة العامة. إنها ليست جزيرة معزولة تتمتع باستقلال كامل و اكتفاء ذاتي آمن بل هي قطاع ينهل من القطاعات الأخرى و يتقاطع معها بشكل أو بآخر و بالتالي فإن الأداء الرياضي يتوقف حتما على مدى تخلف باقي المجالات أو ازدهارها.
صحيح أن ثمة جامعات رياضية لا تختلف في شيء عن الدكاكين الحزبية التي لا تفتح أبوابها و لا تعلن حالة التعبئة الشاملة و لا تظهر جديتها و كرمها إلا مع اقتراب المواعيد الانتخابية إلا أن جذور الأزمة أكثر تعقيدا و تشعبا. المشكلة ذات طابع بنيوي محض و لا يمكن اختزالها فقط في غياب استراتيجية رياضية وطنية واضحة أو في قصور التشريعات الجاري بها العمل في هذا الميدان أو في ضعف هيكلة النوادي أو … حتى البنيات التحتية التي غالبا ما يشار إليها بأصبع الاتهام في الأدبيات و اللقاءات التي اتخذت من تأهيل رياضتنا موضوعا لها إما بسبب غيابها أو بسبب تردي حالة معظمها أو بعضها لا يمكن أن نضع على مشجبها كل إخفاقاتنا المتتالية، و إلا كيف يمكن تبرير تدني مستوى عدد لا يستهان به من أنديتنا و ذلك بمجرد ما أصبحت المدن التي تنتمي إليها تتوفر على ما يلزم من مركبات رياضية لا تلبي فقط الحاجيات المحلية و الوطنية بل منها أيضا ما يسمح باستضافة التظاهرات الدولية ؟ فعلى الرغم من توفرنا مثلا على مسابح بمواصفات أولمبية منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي فإننا لم نتمكن من تأهيل سباح واحد قادر على رفع رايتنا بالملتقيات الإقليمية فأحرى العالمية، و على الرغم من انتشار مجموعة معتبرة من القاعات المغطاة بمختلف ربوع المملكة فإن أداء رياضيينا في معظم الرياضات الجماعية مخجل حقا.
ما الفائدة إذن من شن جهات عديدة لحملة شرسة ضد معظم المسؤولين الرياضيين السامين بحجة أن عملهم لم يثمر و لو ميدالية قصديرية واحدة ؟ ألا يعلم القاصي و الداني بأن رئيس جامعة المصارعة لا يصارع أحدا، و بأن رئيس جامعة الدراجات ربما لم يعد قادرا على الحفاظ على توازنه على عجلتين، و بأن رئيس جامعة السباحة قد يتعرض للغرق إن هو حاول بلوغ قعر المسبح، و بأن رئيس جامعة الملاكمة يكتفي بالتفرج على تبادل اللكمات كغيره من عشاق “الفن النبيل” ؟ بعبارة أخرى، هل الرؤوس المطلوبة للقطع هي التي تبارت على الميادين و الحلبات ؟ و هل إعدامها و ضخ دماء جديدة بالتنظيمات الرياضية المعنية كفيل بإغراق البلاد بالميداليات خلال الاستحقاقات العالمية القادمة ؟
لابد من التذكير بأن كل هؤلاء و غيرهم من المؤطرين لا يتحركون إلا في حدود ما هو متوفر من معرفة و قوانين و أعراف و إمكانات مادية و موارد بشرية، و الأصوات التي تطالب بهكذا “تطهير” لا تختلف درجة غبائها عن مستوى غباء من ينادي بتكسير المحرار لتلطيف الأجواء. المسألة في الحقيقة لا تستدعي استنفار كل الجهات المدنية و الرسمية مع تحديد الأسماء المرشحة للمحاسبة و التنكيل و ربما السجن أيضا ما دام أن أهم ما في التباري على المستوى الدولي هو التنافس الشريف و تحقيق التقارب بين شعوب الأرض و أن أهم ما في الممارسة الرياضية هو تحقيق مبدأ “العقل السليم في الجسم السليم” لإبطاء مفعول الزمن على الجسم و لو لبضع سنوات و للتخفيف من اكتظاظ المستشفيات و لو بنسبة ضئيلة.
إن للتفوق شروطا و للتقهقر أعراضا، و الإصلاح إما أن يكون شاملا و شموليا أو لا يكون، و لنا في تاريخ المغرب المستقل أكثر من مثال. فكم من إصلاح فشل إما لأنه ذو بعد اقتصادي لكنه أغفل البعد الاجتماعي مثلا أو لأنه ذو بعد حقوقي لكنه أغفل البعد الأمني أو لأنه ذو بعد تعليمي لكنه أغفل هوية البلاد و العباد أو خصوصيات سوق الشغل. هل يعقل إذن في ظل عقلية الإصلاح الراهنة أن ننتظر من رياضي جائع أن يحصد الميداليات بأرقى الملتقيات ؟ و هل يعقل أن يضحي رياضي بدراسته و يتفرغ كليا لتداريبه و هو يعلم علم اليقين بأنه إذا لم يراكم من الأموال ما يسمح له بالاستفادة من تقاعد مريح فإن مصيره لن يخرج عن التسول أو حراسة السيارات عندما تنتهي مسيرته الرياضية ؟
و بالرجوع إلى لائحة الدول التي تصدرت سبورة الميداليات الموزعة في الأولمبياد الأخير نلاحظ بأن تفوق الأمم المعنية لم يأت من فراغ. فتربع الولايات المتحدة الأمريكية مثلا على رأس هذه السبورة سبقه تربعها على عرش التكنولوجيا و البحث العلمي و الصناعة و السياحة و التجارة الدولية ناهيك عن فرض الانضباط داخل المجتمع بكل الطرق الممكنة و تكريس مفهوم المواطنة على أرض الواقع و تلبية كل حاجيات المواطنين الاجتماعية من أمن و عدالة وشغل و سكن و تطبيب و تعليم.
قد يقول قائل : و بماذا نفسر الحضور المتميز و المتقطع لمملكتنا ببعض المحافل الدولية و خاصة في مجال ألعاب القوى على الرغم من غياب شروط التفوق العامة ؟ الأمر هنا يتعلق بذلك الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فبلدنا ـ شأنه في ذلك شأن بلدان عديدة أخرى ـ يعرف من وقت لآخر إشراقات تضيء سماء رياضته لكنها تظل في عداد الاستثناءات التي لا يعتد
بها. و هذه الإشراقات هي في الغالب تمرة اجتهادات شخصية أكثر ما هي نتاج خطة وطنية رسمية مدروسة منبثقة من بيئة بمكونات متجانسة و أجواء سليمة. لهذا السبب لم تستطع إنجازاتنا الرياضية الكبرى أن تخلق منا قوة رياضية يقام لها و يقعد على غرار ألمانيا الشرقية البائدة أو الصين الشعبية المعاصرة… و في انتظار أن يتحقق ذلك سيظل الغيورون على هذا الوطن يلحون على ضرورة الانتصار على ألمانيا و إيطاليا و اليابان و غيرها من الدول العظمى رياضيا فقط !!!!!!
أعتقد جازما أن مساهمة رياضيينا في تنشيط أولمبياد باريس و انضباطهم و حسن سلوكهم و عودتهم إلى أرض الوطن دون تسجيل و لو حالة فرار واحدة هي في حد ذاتها إنجازات عظيمة تحسب للبعثة و مؤطريها.
إضافات لها علاقة قوية بما سبق :
كلما أعمد إلى مساعدة أبنائي في إنجاز فروضهم المنزلية إلا و أرصد خطأ أو خطأين بمؤلفات وزارة التربية الوطنية، و في كل مرة يكون الاكتشاف مضحكا بالنسبة لصغاري و مؤلما بالنسبة لي.
و قبل سنوات عديدة و بينما كانت عائلة مراكشية تهم بدفن أحد أفرادها اتصل بها مسؤول صحي ليخبرها بأن المعني بالدفن الحقيقي لم تغادر جثته مستودع الأموات و بأن الشخص الذي أقيمت عليه صلاة الجنازة للتو ما هو سوى أجنبي مسيحي وافته المنية على أرض سبعة رجال و سلم للعائلة المذكورة عن طريق الخطأ. كان المشهد مثيرا للابتسام بالنسبة لقراء الجريدة التي نقلت الخبر لكنه كان مستفزا بالنسبة لأقارب المرحوم.
و ذات صائفة شاهدت بأحد شوارعنا مجموعة من المواطنين الطيبين و هم بصدد دفع سيارة تابعة للمصالح الأمنية لمساعدة سائقها على تشغيل محركها المختل. كان المشهد لطيفا بالنسبة للفضوليين من المارة لكنه كان محرجا بالنسبة لرجل الأمن المسؤول عن العربة.
الخلاصة : عندما يجثم التخلف على صدر أمة ما فإن “إشعاعه” ينتقل أيضا إلى باقي الأعضاء و قد تطال آثاره حتى الكتب المدرسية و ثلاجات الموتى و مركبات حماة الوطن و المواطنين… أما الأمم التي تعتبر تجنيس الرياضيين الأجانب الحل الوحيد و الأوحد لتجاوز تخلفها الرياضي فلا يسعني إلا أن أرفع القبعة لمستوى عبقريتها و حس الابتكار لديها مع الدعاء لها بالمزيد من التألق و التفرد و التميز و التوهج.