بقلم فكري سوسان
إلى أبناء جيلي الذين درسوا في مدارس الحسيمة والريف في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات
جيلُنا يعرف الحقيقة، لا من الكتب ولا من الندوات، بل من وقع العصا على الأيدي، ومن الصمت الثقيل في حجرات الدراسة. في مدارس الريف — في الحسيمة، أجدير، إمزورن، وتارجيست — تعلّمنا القراءة والكتابة، لكننا تعلّمنا معها الخوف. تعلّمنا أن الخطأ لا يُصحّح، بل يُعاقب.
كنا نحفظ “سورة الفجر”، ونتلعثم في “الضرب في تسعة”، وكان العقاب حاضرًا، جاهزًا، لا يستأذن. لم تكن العصا رمزًا، بل أداة يومية. المعلم، في أغلب الحالات، كان شخصًا غاضبًا، متوترًا، يعيد إنتاج العنف الذي تعرّض له بدوره، في سلسلة لا تنتهي.
الفرنسي هوبير هانون، في كتابه Paradoxe sur l’enseignant، يشرح هذه الظاهرة بعمق نفسي وتربوي. يقول إن المعلم، حين يدخل الفصل، يرتدي قناعًا. لا يُظهر شخصه الحقيقي، بل يُجبر على تمثيل دور السلطة. هذا الدور، حين يتصادم مع ضعفه الداخلي أو شعوره بالإهانة، يتحول إلى عنف. العصا، حسب هانون، ليست نابعة من قسوة طبيعية، بل وسيلة لإخفاء الضعف أو الفشل أو القلق من فقدان السيطرة.
يرى هانون أن كثيرًا من المعلمين لا يضربون لأن التلميذ لم يفهم، بل لأنهم لا يتحمّلون رؤية فشلهم في الشرح. ويضيف أن بعضهم لا يريد، في العمق، أن يُعلّم التلميذ حتى لا يفقد سلطته عليه. فحين يعرف التلميذ، يستغني عن معلمه. وهنا، كما يقول، يتحول التعليم إلى “عملية انتحارية” بالنسبة لمعلّم يرى في تعلّم تلميذه تهديدًا لوجوده المهني.
حين نسترجع تلك الصور: المسطرة الخشبية، الطباشير الغبارية، الركن المظلم… نفهم أن الأمر لم يكن مجرد “غلظة” معلم، بل جزءٌ من مسرح يومي، كانت تُفرض علينا فيه أدوار الصمت والانصياع، ويُجبر فيه المعلم على أداء دور “الحارس”، حتى وإن لم يؤمن به.
هذه ليست دعوة إلى جلد الذات، ولا إلى الانتقام من الماضي، بل وقفة ذاكرة. وقفة مع أنفسنا كجيل خرج من تلك الفصول ممزقًا بين العلم والإذلال. خرجنا نقرأ ونكتب، نعم، لكننا كبرنا بخوف دفين من الخطأ، ومن المعلم، ومن المدرسة ذاتها.
نُحيّي من علمونا بالكلمة الطيبة، وهم قلّة. وندرك اليوم من أين جاء عنف أولئك الذين ضربونا، لأننا نعرف الآن أن النظام التربوي، كما يقول هانون، كان يُرغمهم على التمثيل، وعلى كبت أزماتهم خلف ملامح الغضب.
جيلُنا لن ينسى. لكنه أيضًا لا يريد أن يُكرّر.