ألتبريس.
لم يسبق لتاريخ المغرب المعاصر، أن عرف زعيم حزب سياسي أثارت شخصيته الكثير من اللغط، وأسالت دلاء من المداد، بالشكل الذي عليه اليوم حالة الأستاذ ابن كيران، ليس بصفته أول من حظي بمنصب رئاسة حكومة ما بعد “الربيع العربي”، في ظل دستور متقدم وبصلاحيات واسعة، بل لأنه أول أمين عام حزب ذي مرجعية إسلامية، يصل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع ويتنصل من التزاماته، ليتحول إلى مجرد ظاهرة صوتية ملأت الدنيا ضجيجا وقسما، وخيبت آمال وأحلام المواطنين…
ذلك أنه فضلا عن توظيفه الخطاب الديني في تأطير لقاءات ومهرجانات حزبه، يمتلك حسا براغماتيا وقدرة على المناورة والمراوغة، لاسيما عند حضوره جلسات المساءلة الشهرية، التي حولها إلى مسلسل هزلي تافه، يطفح بالسجالات والمزايدات السياسوية، الغارقة في الشعبوية والمغلفة أحيانا بلغة الاستعارة والتلميح، مما جعل خصومه ومعارضيه يرون فيه مهرجا سياسيا ليس إلا.
فبانفعالاته غير المبررة، ساهم بوعي أو بدونه في إفراغ الخطاب السياسي من حمولته الفكرية، وجرد رئاسة الحكومة من هيبتها. والأدهى من ذلك، أن الأمر لم يعد مقتصرا على الاستفزاز والاستقواء، بل وصل حد القسم بالله أمام الملأ في بعض القضايا الحساسة، في حين أن العمل السياسي يقتضي الرصانة والتحلي بالحكمة وروح المسؤولية، ويتطلب الكثير من اللباقة والمرونة والتواصل المثمر وحسن تدبير الأزمات. وفي هذا الصدد، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، إقدامه عند بداية ولايته على القسم بعدم تشغيل أصحاب “محضر 20 يوليوز” أو التراجع عن الاقتطاع من أجور المضربين، ثم العودة عند مشارف نهايتها إلى القسم على تمسكه بالمرسومين المشؤومين، اللذين يقضيان بفصل التكوين عن التوظيف وتقليص قيمة المنحة الشهرية إلى حوالي النصف، حتى لو أدى ذلك إلى الإطاحة بحكومته، دون الاهتمام بما تعرض إليه الأساتذة المتدربون من مجزرة رهيبة على يد القوات العمومية، يوم “الخميس الأسود” 7 يناير 2016، ولا تقديم أدنى اعتذار للمصابين وأسرهم…
ولنفترض أن الرجل ولوع بالحلف، فلماذا يميز بين فئات المجتمع ويفضل القفز على الحيطان الصغيرة بدل مواجهة “الحيتان” الكبيرة؟ ثم، ألم يكن حريا به أن يقسم على الوفاء بما حمله حزبه من شعارات براقة وبرنامج انتخابي، وما التزم به شخصيا من وعود؟ ومن ذا الذي حال دون رفع “قسمه” في وجه الذين عاثوا في البر والبحر والجو فسادا، ودفعه إلى الهرولة نحو استبدال شعار “محاربة الفساد والاستبداد” ب “عفا الله عما سلف”؟ لماذا لم يحلف على عدم التحالف مع الفاسدين، والتشبث بصندوق تنمية العالم القروي، ومراجعة أجور الكبار الخيالية ومعاشات الوزراء والبرلمانيين، وفرض ضريبة على الثروة، ومحاربة التملص الضريبي ورخص الصيد في أعالي البحار والنقل العمومي ومقالع الرمال والترامي على أملاك الدولة… بدل رهن مستقبل الأجيال القادمة، بإغراق البلاد في مستنقعات المديونية، وإصلاح نظام المعاشات المدنية بمقاربة أحادية دون إشراك المركزيات النقابية، على حساب الموظفين والأجراء؟
ألم يكن من الأجدى في سياق انتهاجه لسياسة التقشف، الانطلاق من ترشيد النفقات وتقليص عدد الوزارات، التي بلغت أزيد من أربعين في النسخ الثلاث لحكومته، لا لشيء سوى لإرضاء الخواطر، بدل الإصرار على تحرير أسعار المحروقات و”إصلاح” صندوق المقاصة، وضرب القدرة الشرائية للطبقات المعوزة والمتوسطة، في ظل تجميد التعويضات والأجور وتغييب الحوار الاجتماعي الجاد والممأسس؟ وهل يعقل، أن يذهب في خضم ارتفاع معدل البطالة، وتصاعد احتجاجات الشباب العاطل من ذوي الشهادات العليا بالخصوص، إلى الحد من مناصب الشغل والاتجاه صوب دعم التشغيل الذاتي والعمل بالقطاع الخاص، و”الترحيل القسري” للموظفين في الإدارات العمومية، دون مراعاة انعكاساته السلبية على استقرارهم النفسي والاجتماعي، بل والتفكير في تنظيم مغادرة طوعية ثانية، والتخلص التدريجي من الوظيفة العمومية، عبر التشغيل بعقود مؤقتة، وهو ما قد يؤدي إلى تعميق الهشاشة في القطاعين العام والخاص معا.
فلماذا لم يقسم على تحسين مستوى عيش المواطنين وضمان العدالة الاجتماعية، واتخاذ إجراءات عملية في اتجاه حماية الحقوق والحريات، وتطبيق الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتعزيز المكتسبات، التي استرخص في سبيلها شرفاء الوطن أرواحهم، والسهر على تنزيل الدستور وتفعيل مقتضياته، لاسيما ما يتعلق بقانون النقابات وقانون الإضراب، والمناصفة والحقوق الثقافية والتنوع الثقافي… بدل العودة إلى ممارسات الزمن البائد، من حيث القهر والتسلط والقمع والانتهاكات والترهيب والإمعان في إذلال كرامة الإنسان، ومصادرة الحريات والمحاكمات الجائرة في حق الصحافيين والنشطاء والمعارضين والقضاة…؟
وهل يحق له التباهي والتبجح بما اتخذه من إجراءات تعسفية مؤلمة، وما أقدمت عليه حكومته من “ترقيعات” لا ترقى إلى مستوى انتظارات الطبقات الشعبية المتضررة، واعتبارها تدابير وقائية لإنقاذ البلاد ومنجزات غير مسبوقة؟ أما كان خليقا به البدء بتخسيس “البطون” المنتفخة عوض امتصاص دماء المقهورين، والمبادرة إلى معالجة ملف التشغيل، والنهوض بالقطاعات الاجتماعية الأكثر حيوية وعلى رأسها قطاع التعليم، باعتباره رافعة أساسية للتنمية البشرية، والقضاء على الفساد واقتصاد الريع ونظام الامتيازات والمحسوبية، والتوزيع العادل لثروات البلاد وتفكيك الصناديق السوداء وغيرها، ومتابعة ناهبي ومهربي أموال الشعب…؟
إن الشجاعة الحقيقية، تستلزم مجابهة أباطرة الفساد، بقوة العزيمة واستراتيجيات واضحة المعالم، وليست قسما أو لعبا بالنار، عبر إهاناته المتعددة وقراراته المجحفة، دون التفكير في عواقبها وردود الأفعال الشعبية، التي من شأنها الإتيان على الأخضر واليابس، ولعل في رفس وحرق صورته بمدينة أكادير حول ما اعتبره “السوسيون” إساءة لهم، والذي نشجبه، ما ينذر بالكارثة لا قدر الله…
وها نحن اليوم على بعد شهر من حلول الذكرى الخامسة ل”حركة 20 فبراير” المجيدة، التي مهدت لتصدر حزبه نتائج تشريعيات 2011 المبكرة، فماذا تحقق من المطالب والشعارات؟ للأسف الشديد، أن الكثيرين منا صحوا متأخرين على خدعة كبرى، وتبين أن حكومته لم تعمل إلا على تغذية الاحتقان ورفع وتيرة الاحتجاجات والإضرابات. فالقهقهات الصاخبة، واللجوء إلى القسم والعنف عند الشدائد وضد المحتجين السلميين، لن يزيد الغضب الشعبي إلا تأجيجا…
اسماعيل الحلوتي