محطات تاريخية من سنوات الرصاص التي أعطت الانطباع بأن الفاعلين في أحداثها كانوا بحق شياطين إنسية رقصوا على إيقاع تنهدات الموتى في مشاهد مرعبة جهنمية تتعفف الوحوش الضارية عن إتيانها، إنهم باسم السلطة والأمن تزينوا بلباس السادية التي تتلذذ بدماء البشر حينما يصنعون مشهدا لاراقة الدماء التي تسيل بغزارة يقول أحمد المرزوقي في كتابه تزمامارت الزنزانة رقم 10 ” نطلب منه شربة ماء لاطفاء عطشي الحارق ملأ كأسا ووضع حافته على فمي بيسراه فما حركت شفتي لارتشاء الماء ضرب بيمناه قعر الكأس فانكسر الزجاج بين أسناني وسال الدم غزيرا على صدري فما كان منه إلا أن صفق يدا بيد، ثم استلقى على كرسيه مقهقها من أعماق قلبه الهازي”. ص 43 تحت عنوان بداية الجحيم.
هؤلاء لن يتصالحوا مع الحاضر ولا يحدوهم نزوع بالآمال نحو مستقبل أفضل رغم ما تحسسوه من هبّات رياح تنذر بحتمية التغيير والمراجعة، وان الاستمرار في أتون الموت المجاني لكل معارض لن ينفع أمام حلول موعد المحاكمات التاريخية التي تمر أطوارها أمام أنظار الأمم التي تعتبر النصر الديمقراطي حليف المتحضرين.
ارتأى هؤلاء القتلة الجلادون أن الوقت حان ليستبدلوا لباس الجزارين بلباس المدنية علهم وعساهم يدرؤون عنهم التهمة.. هؤلاء القتلة الذي أطلق عليهم البشر تجاوزا الساديون المشبعون بثقافة الحقد والكراهية، بعد أن استشرى في ذواتهم هذا الداء الذي لا يرجى شفاؤه اعدوا محيطهم الأسري والاجتماعي بهذه الحالة فتناسلت منهم كائنات أشبه بطباع سلفها، فهل كتب على هذه الامة أن تعيد تجربة سنوات الرصاص بعد انتكاسة ما عرف بالعهد الجديد؟
آثرت في هذا المشهد الأليم الذي قلما تجد له نظير في أعتى السجون التي شيدت في القرون الوسطى، والقرون التي قبلها، أن أعرض على القارئ صورا لوحشية النظام في التعامل مع من اعتبرهم معارضين له. وإليكم مقتطف عن أحد ضحايا هذا السجن الرهيب الذي لم يقو الشيطان على صناعة هندسته فتفوق عليه صناع الموت من الجلادين الذين يدينون بدستور ديباجته تقول أن الدولة يسودها نظام ديمقراطي بمرجعية دينية اسلامية..” : إنه الضحية الديك الجيلالي فقد تخرج من أول فوج للمدرسة العسكرية لأهرمومو سنة 1956 وعمل بها مدربا للتلاميذ في علم ميكاميك السيارات، إضافة إلى انه كان مسؤولا على مرآب المدرسة ومشرفا على جميع الاصلاحات التي كانت تجري فيها.
سقط مريضا سنة 1978، ولكنه تماثل نوعا ما للشفاء بفضل حدب أصدقاءه وتشجيعاتهم المتواصلة له، غير أن وفاة جاره أزيان أثرت عليه كثيرا، فازداد غرقا في صمته وعزلته إلى أن سقط هذه المرة صريع مرض أفرغه نهائيا من البقية الباقية من طاقته، فقد تعطل القسط الأكبر من جهازه الهضمي، ولم تعد له من شدة الوهن وفرط الهزال عضلات على مستوى البطن، فأصبح يشكو من حصر موجع مزمن، أدرك الجيلالي أن نهايته قد اقتربت، فضل يقضي وقته في تضرع مسموع كان يسأل الله فيه أن يعجل بخلاصه، ولم يقصر الحارس محمد الشربداوي ( جيف ) في هذا الظرف من جهد، لأنه كان بحق ملاكا من ملائكة الرحمان، إذا كان ينفعه ينفعه بما استطاع من الدواء، ويؤثر بشخصيته القوية على المتشددين من الحراس ليأذنوا لجيران الجيلالي بالمرور عنده من أجل تنظيفه والتخفيف عنه، وهكذا تعاون كل من القبطان محمد غلول ومحمد المجاهد وعبد الرحمان صدقي على هذه المهمة النبيلة إلى النهاية، وقد حدث ذات مرة أن تطوعت، يقول المرزوقي، للذهاب إلى زنزانة الجيلالي لإراحة أصدقائي الثلاثة، فلما فتح الحراس عليه الباب، رأيت مشهدا مروعا رسخت بشاعته في ذهني إلى الأبد ، كان المسكين عبارة عن جثة مطروحة على أرضية الزنزانة العفنة، ترتعش أجزاؤها في كل الاتجاهات وكأنها كانت خاضعة لتيار كهربائي عنيف، وما أن أقبل الليل وأنا معه أواسيه وأنظفه حتى هجمت علينا جيوش لا قبل لنا بها من البق اللعين، كانت تزحف فوق جلودنا اليابسة كأمواج إبر موجعة، ولكن الجيلالي لم يكن يحس بها بالمرة لأنه كان مشغولا عنها بما هو أفظع، ولما سألته عن طبيعة أوجاعه أكد لي بأنه يشعر وكأن كل ذرة في جسمه تحترق احتراقا وأن الحل الأوحد هو أن يعجل الله بأخذ روحه..” يتبع