مسألة الحداثة منظورا إليها من فوق، من مستوى التنظير الفكري والفلسفي، و من دون انعكاس الحداثة على مستوى آليات أجرأة التحديث، على مستوى الواقع الملموس، أي التنظيمات الدولتية و المجتمعية، و تأثيراتها الايجابية على المواطنين و المجتمع في بوتقة محددة من الناس و في زمن محدد، هي مجرد خطوات نظرية على درب الحداثة.
فكل حداثة مجردة عن ترتيباتها الثقافية والقيمة، وسياقها التاريخي والاجتماعي، هي محض اجتهاد نظري له أهمية بطبيعة الحال، وفي هذا الباب، لا بد من التنويه بمجهودات المفكرين والفلاسفة ومناضلي المجتمع المدني، وكل من ساهم ويساهم في “توطين” مفاهيم جديدة، ضمن بيئة “الثقافة المغربية” وفي ذلك أيضا خلخلة أكيدة للتقليد، لما ترسخ في “قاع المجتمع” من قناعات راسخة..
ضمن هذا المستوى النظري، لابد من لإشارة إلى إضافات المؤرخ عبد الله العروي، الذي أغنى الحداثة المغربية بسلسلة من المفاهيم، كالاديولوجية، الحرية، الدولة، العقلنة، والحداثة… والمفكر عابد الجابري صاحب مشروع، نقد بنية الفكر العربي ، ونقد الفكر السياسي، ونقد العقل الأخلاقي.. و الأستاذ الخطيبي، من خلال “نقده المزدوج” وخلخلة ل “ميتا فيزيقا الغرب” و “لاهوت التراث”، دون الاقتصار على المفكر طه عبد الرحمن وفلسفته التداولية” وإسهامه على مستوى ” تخليق الحداثة” وانتقاله إلى مستوى “التطبيق الداخلي” وليس فقط، التجديد، الإبداع، والأتباع.
يبد أن مقاربة موضوع “التحديث المؤسساتي” لدى زعيم حركة التحرر المغربية، محمد بن عبد الكريم الخطابي، تعترضها عدة صعوبات، لابد من الإشارة إليها، بادئ ذي بدء.
أولى التحديات/ جدة اقتحام هذا المجال والمحفوف بالطابوهات والمضمرات، وندرة المصادر، من جهة ثانية اعتياد الباحثين والمؤرخين والسياسيين، على تناول ظاهرة حرب التحرير الريفية، وعموم الظواهر النضالية، من منطلق “الزعامات الفردية” من دون تمحيص للبيئة الفكرية والاجتماعية والشعبية، المنتجة لهذه الزعامات والحركات.
ثاني التحديات : ضالة هامش الحرية المتاح/ لمثل هذا التناول، خاصة وأن تفعيل منطق “المصالحة” مع الذات والتاريخ المغربيين، بكل التباساته ومناطق الضوء والعتمة فيه، لازالت جد مقلصة وبحاجة إلى مزيد من البحث والتفعيل..
غير أن ما يشرعن”مغامرة” البحث في هذا الجانب الهام من تجربة المغاربة، بصدد التحديث المؤسساتي، كما تم انجازه من قبل محمد بن عبد الكريم الخطابي، هو “ريادية” ما أضافه إلى الخزانة التاريخية الوطنية مناضلون ومفكرون أمثال الأساتذة: عبد الرحمن اليوسفي في مبحثه : “مؤسسات جمهورية الريف” والباحث دافيد هارت من خلال موضوع: “من الريفوبليك إلى الربوبليك” وماريا روسا في كتابها الأخير بالخصوص: “محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال”، والذي تضمن عدة وثائق أخالها ستكون مفيدة ضمن متن التحديث لدى الخطابي، وعشرات المؤرخين والكتاب والشهادات، التي سترد ضمن هذا البحث، دون إغفال ذكر المقولات الهامة، والتي وردت على لسان الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، سواء من خلال مراسلاته الصحفية، أو من خلال تصريحاته وتقييماته لفشل الحركة في تحرير شمال إفريقيا، أو على مستوى الإرساليات إلى عصبة الأمم، وسواها من الهيآت والمنظمات الدولية.
وأخيرا نشير إلى تركيز هذا الملف ، على الجانب العملي، من التجربة الدستورية والمؤسساتية كما عكسته مواقف وتنظيمات وإبداعات محمد بن عبد الكريم الخطابي، سواء زمن الثورة التحريرية، أو من خلال التفاعل، مع أول دستور مغربي بعد الاستقلال.
وحسبنا أن ما يشفع لنا ( في النقائص التي ولا شك ستطال البحث) هو صدق محاولة اقتحام “مغامرة” البحث في أكثر الجوانب إشراقا من تاريخ وطننا، وجدة هذا المسعى قياسا واعتمادا على مقولة : “المجتهد إذا أصاب فله أجران، وان أخطأ، فله اجر واحد”.
وعزائنا الوحيد ورهاننا الأوحد، أن يفتح ملفنا هذا شهية من يملك ” مفاتيح البحث” ، للذهاب بعيدا، في استجلاء الحقيقة، وفتح باب تاريخنا الوطني، على مصراعيه، خدمة للحقيقة ونشدنا للحرية.
مواقف محمد بن عبد الكريم الخطابي:
درج الكثير من المنبهرين بتجربة محمد بن عبد الكريم التحررية، على استعمال أسلوب الإسقاط، فمنهم من يعكس اختياراته السياسية الآنية، على معطيات باتت من الماضي المشترك بين المغاربة، فمرة يصبغ موقف زعيم الثورة الريفية، بصباغة اليسراوية، وحينا يلبس لبوس الاسلاموية، وحينا آخر يتخذ قدوة لمن ينزع إلى الشوفينية و “العرقية اللغوية” والثقافية في الوقت الذي تؤكد فيه التجربة العلمية لهذا القائد الوطني الفذ، استفادته من كل المعطيات والعناصر السالفة الذكر. ومن دون تحيز ساذج، تثبت الدراسات التاريخية، وشهادات الأحياء والأموات، الأصدقاء والأعداء، سواء بسواء، أن موقف محمد بن عبد الكريم الخطابي، والذي تجسده اختياراته ومسلكياته في الحياة والكفاح، ينطبق عليه بالتمام والكمال، التعريف الذي أعطاه المفكر عبد الله إبراهيم، الذي عرف الحداثة في مقال صادر بمجلة “البحرين الثقافية” بتاريخ 2003، عدد 34، صفحة رقم 7 حيث يقول : ” الحداثة موقف فكري جديد، ورؤية خاصة إلى الذات والعالم ، غايتها إعادة ترتيب الواقع والفكر، طبقا لحاجيات تاريخية معينة. إنها رؤية تتطلع دوما إلى التجديد، وتؤسس مضمونها على فكرة الحوار والتواصل والتفاعل” ولا شك أن القيم تلك قد جسدتها مواقف الخطابي، سواء الطريقة الحضارية التي عامل بها الأسرى الاسبان، أو العبرة من عدم اقتحام مدينة مليلية المحتلة في عز الانتشاء بالنصر العظيم في معركة أنوال المجيدة (وكذا عدم اقتحام مدينة فاس لاحقا) وقد لخص الأنتروبولوجي “دافيد هارت”، شخصية الخطابي في جملة واحدة، أوردها الكاتب علي الإدريسي في كتابه “الريف المحاصر” صفحة رقم 54، حيث قال هارت بان محمد بن عبد الكريم الخطابي، حتى وهو في قلب أهوال الحروب “لم ينس أبدا أنه كان قاضيا” .. ولا شك أيضا أن ما تعكسه مراسلات الخطابي وتصريحاته للصحافة الدولية، تجسد ببلاغة، المواقف الحداثية للخطابي وفي هذا الباب فقد خاطب في رسالة وجهها إلى سفراء بعض القوى بطنجة، والى عصبة الأمم بجنيف، في سبتمبر 1922 ( والرسالة منشورة في مجلد أصدرته مؤسسة عبد الكريم الخطابي وقد تصدرته الرسالة الشهيرة) حيث قال الخطابي :
” لقد حان الوقت بالنسبة لأوربا التي أعلنت في القرن العشرين عن استعدادها للدفاع عن الحضارة والارتقاء بالإنسانية، أن تجعل هذه المبادئ تنتقل من النظرية إلى الممارسة، لقد حان الوقت لتنهض وتدافع عن الفقراء ضد المعتدين، ولتطالب الأقوياء بحقوق الضعفاء الذين سيؤدي بهم مفهومهم التقليدي للكرامة، في حالة غياب مساعدة خارجية إلى نهاية واحدة، هي تدمير أنفسهم (…) الريف لا يتعارض مع الحضارة الحديثة، ولا مع مشاريع الإصلاح ولا مع المبادلات التجارية مع أوربا .. “.
وفي نفس السياق عبر الخطابي عن موقفه العام من الحياة والكفاح والحرية، مخلفا عشرات الأمثال والحكم الدالة على عمق موقفه السياسي… والفكري… إذ يقول:
-” ليس في قضية الحرية حل وسط “
-” الحرية حق مشاع لبني الإنسان، وغاصبها مجرم “
-” انتصار الاستعمار، ولو في أقصى الأرض هزيمة لنا، وانتصار الحرية في أي مكان هو انتصار لنا “
-” إذا كانت لنا غاية في هذه الدنيا، فهي أن يعيش كافة البشر مهما كانت عقائدهم وأديانهم وأجناسهم في سلام وأخوة “
والخلاصة من مواقف وتصريحات الخطابي، هي أن الرجل وحركته التحررية: مشروع فكري متجدد، ورؤية خاصة إلى الريف والمغرب والعالم، والهدف من مشروعه التحرري إعادة ترتيب واقع الهوان أمام الاستعمار، والتفكير طبقا لمعطيات العصر وفي لحظة تاريخية معينة (هي لحظة صراع كل العالم ضد ظاهرة الاستعمار) في التأسيس لمقاربة إنسانية جديدة،قوامها الحوار والتواصل والتفاعل، خدمة لحق الشعوب في الحرية والكرامة والعيش المشترك.
مؤسسات جمهورية الريف والمتن الدستوري :
أثارت مسألة تأسيس بنية دولتية، من قبل “اتحاد قبائل الريف”، إبان الحرب التحريرية، وغداة الانتصار الكبير في معركة أنوال عدة تساؤلات من طرف المؤرخين والمثقفين والمهتمين … إذ ثمة من اعتبر أن تأسيس “جمهورية الريف” كان مجرد “تاكتيك” ذو هدفين، الأول هو تأطير “الهبة الشعبية العارمة”، لعموم قبائل شمال المغرب للانخراط في مسار الثورة الريفية، بعدما تأكد للجميع وبالملموس قدرتها على مواجهة الاستعمار، وتعاظم شهية المنافسة على الغنائم. ومن جهة ثانية تشكيل الإطار الجديد من أجل إبراز قدرة الخطابي وحركته التحريرية على قيادة زمام الأمور بالريف إذ ما رضخ الغرب الاستعماري لشروطه التفاوضية، مع تسويق مشروع الخطابي كحل وسط، ومندرج ضمن الأنساق السياسية الغربية، خاصة وان الخطابي حافظ وطيلة مراحل الحرب على استمرار قنوات الحوار ومواصلة الدعوة إلى التعاون لخدمة مصالح ” الشعب الريفي” والشعب الاسباني .. بيد أن ثمة من يجزم القول أم محمد بن عبد الكريم الخطابي، كان صاحب مشروع سياسي استراتيجي، لإنشاء دولة جمهورية قائمة بذاتها، وبالرغم من الالتباسات التاريخية وجدة الموضوع على الحقل السياسي والتاريخي بالمغرب، فان هاجسنا من طرح هذا الموضـــوع، هو إماطة النسيان عن هذه الواقعة التاريخية، ومن ثم معرفة الأبعاد الحداثية والدستورية في تجربة الخطابي النظرية والعملية.
في سياق ما اعتبره الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ( في مقاله “مؤسسات جمهورية الريف” والذي نشر في عدة منابر إعلامية، ومنها مجلة “أمل” التاريخية عدد 8 مزدوج ) تتوفر حركة التحير التي قادها عبد الكريم “على مضمون جديد بل ثوري” فانه انطلق في دراسته الهامة من اعتبار إبداع عبد الكريم الخطابي هي محاولة منه لإيجاد “حل لإشكالية الدولة المغربية”، وان “جمهوريته الصغيرة” مدعومة بتنظيم “حديث”، توفرت فيه كل المقومات كالحدود ” إن الضفة الشمالية لنهر ورغة ستكون الحد الجنوبي لدولة ، بحيث ستصبح كل البلاد الجبلية داخلة في دولة الريف” وكالسيادة التي قال فيها عبد الكريم الخطابي “ليس هناك حق مقدس، أكثر من حق الشعوب في تقرير مصيرها، أكثر من حقها في اختيار النظام الذي يتلاءم مع عقليتها ورغباتها .. نحن نريد أن نضع ثقافة قائمة على مبادئ السلم والعدالة” وأخيرا وعن مقوم الشعب فيقول اليوسفي “أول نواة شعبية كانت بمثابة أساس للدولة من القبائل الريفية المحررة كبني ورياغل وتمسمان وبني توزين وبقيوة، وان تتسع الدولة، لتضم في ما بعد (حدود الدولة ترسمها بنادق المجاهدين) كافة الجماعات في منطقة الشمال” وأكد اليوسفي حكمة الإستراتيجية التي اعتمدها الخطابي، في عدم رسم الحدود الصارمة لدولة الريف، تاركا الباب مفتوحا على مستوى الخطاب والعلاقات الرسمية “إستراتيجية حكيمة وواقعية ومتوسطة المدى”.
ومن دلالات تشبع الخطابي بالفكر المؤسساتي تركيزه على توحيد قبائل الريف، حتى قبل مواجهة التحديات التنظيمية والسياسية والاقتصادية، التي أفرزتها معركة أنوال، وقد تبلورت عناصر هذا التفكير في الاجتماع الذي عقده اتحاد قبائل الريف بجبل “القمث” بتمسمان، وحضرته إضافة إلى تمسمان، كل من بني توزين وبقيوة وبني ورياغل، حيث أكد الخطابي على نقطتين جوهريتين الأولى هي الوحدة، والثانية هي العدالة وتطبيق القانون.
فكانت خلاصات اللقاء المذكور كما أوردها اليوسفي : اتخاذ مجلس الثورة في نهاية عرض الخطابي “قرارا ثوريا بالنسبة لتلك الفترة إلغاء الأسلوب القبلي في حل النزاعات، والوجه الآخر لهذا القرار، كان العودة إلى تطبيق الشرع في جميع القبائل، على أيدي قضاة يعينون لهذا الغرض. وأول نتيجة لذلك كان تطبيق قانون العقوبات: “من يقتل يقتل “.
وفي جملة واحدة لخص الخطابي في خطابه بالقامة، أهدافه القريبة والبعيدة في جملة دالة إذ قال: “غايتنا هي نفس غاية والدنا:” تهيئة النفوس للنضال الذي علينا أن نخوضه ضد الاسبان، وقبل كل شيء، وضع حد للفوضى وبناء وحدة أبناء الريف”.
وعلى نفس النهج المؤسساتي،واصل الخطابي فيما بعد تنفيذ مشروعه “الدولتي” عبر إقامة الجهاز القضائي، والمدارس الأولى للتعليم، وإقامة شبكة الاتصالات، وغيرها من المبادرات التحديثية، والتي تؤكد ما ذهب إليه عبد الرحمان اليوسفي : “إزاء هذه الدلائل لسنا نبالغ،/ إذ أجزمنا أن عبد الكريم كان يريد تجهيز الشعب الريفي ببنية دولة تتطابق مع التعريف الغربي للدولة، أي مع الواقع القومي والأممي المؤلف من عناصر ثلاثة : الشعب الأرض والسيادة”.
البيان التأسيسي “لجمهورية الريف” ومواقف الخطابي:
حكمت المواقف المبدئية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، مجمل السياسات والمواقف، التي عبرت عنها حكومة ” الجمهورية الريفية ” ، وتكفي الإشارة في هذا الباب إلى التذكير بالمراسلة الجوابية، لوزير خارجية الريف محمد ازرقان، المبعوث بها الى ” دييجو سافيدرا Diego Savedra “، الكاتب العام للمغرب الاسباني، والذي اقترح على الريفيين خطوطا عريضة مفادها، نوع من الاستقلال الذاتي للريفيين، مع الحفاظ على جوهر الحماية كما صاغتها الاتفاقيات الاستعمارية. (ونص مراسلة أوردتها جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 31 أكتوبر 1993)، ورد فيها ضمن المواقف الصارمة والمبدئية لحركة التحرير الريفية مايلي: “نعتبر الحزب الاستعماري الاسباني قد تجاوز وانتهك حقوقنا بدون أي وجه حق، عندما اظهر رغبته في جعل الدولة الريفية، تخضع للحماية. هذه الحماية التي لم ولن نعترف بها أبدا، ونرفضها دوما والى الأبد … نريد أن نحكم أنفسنا بأنفسنا وان نحمي ونصون حقوقنا الشرعية الغير القابلة للنقاش. سندافع عن استقلالنا، بشتى الوسائل، ونرفع احتجاجنا إلى الأمة الاسبانية، والى الشعب الاسباني والواعي، والذي كما نضن لا يناقش شرعية مطالبنا”. وتبقى وثيقة “بيان من الدولة الريفية ونداء إلى جميع الأمم” الموقعة من طرف حكومة “جمهورية الريف”، والتي اختلفت تقييمات الباحثين بصددها، خير معبر عن استحضار الريفيين لمقومات قيام الدولة كما صيغت من طرف المنظومة الغربية حيث أكد البيان الريفي على محددات قيام الدولة كالتالي:
” إن بلادنا تشكل جغرافيا جزءا من إفريقيا، ومع ذلك فهي منفصلة بصورة واضحة عن الداخل (المغرب) وبالتالي فقد شكلت جنسيا عرقا منفصلا عن سائر العروق الإفريقية … وكذلك تختلف لغتنا بصورة بينة عن اللغات الأخرى المغربية أو الإفريقية أو سواها. فنحن الريفيين لسنا مغاربة البتة، كما أن الانجليز لا يمكن أن يعتبروا أنفسهم ألمانا … ولقد أشعرنا في يوليوز 1921، سفراء انجلترا وأمريكا وفرنسا وايطاليا في طنجة أننا نعلن جمهورية الريف … ضمن أراضي جمهوريتنا الكاملة، من خط الحدود مع المغرب حتى البحر المتوسط، ومن ملوية إلى المحيط، وإننا ندعو هنا جميع البلدان إلى إقامة الخدمات القنصلية والدبلوماسية في مركز حكومتنا الحالي في أجدير (العاصمة)”. (نص البيان الريفي أورده روبيرت فورنو في كتابه: عبد الكريم أمير الريف، كما قامت مجلة “أمل” بإعادة نشره في عدد 8 سنة 1996. صفحة 165).
بيد أن ما يهم في هذا الملف، ليس هو التأكيد أو نفي، مدى حجة ومصداقية المصادر التاريخية تلك والمواقف السياسية المذكورة، بل الإشارة فقط، إلى الحيثيات الفكرية والمنطلقات المبدئية والدستورية والثقافية، المؤطرة لحركة ومواقف محمد بن عبد الكريم الخطابي، مما يفيد انخراطه في ثقافة عصره، واستيعابه لمنظومة القيم السائدة كونيا حينئذ، بالرغم مما قد تثير مواقفه، من التباسات سوسيولوجية وسياسية، وبالأخص أمام حضور “التحديث على مستوى خطاب وآليات التعاطي مع الغرب، ومن جهة ثانية ومناقضة حد التناقض، حضور “التقليد” و “السلف الصالح”، سواء تعلق المر، بنص “البيعة”، أو بطبيعة “التعيينات” الخاصة بالقواد المسؤولين عن العدلية … أو تعلق الأمر بمفهوم الأمير والإمارة ” وسواها من الأشياء، التي تستدعي البحث العلمي، لفهم حقائق تلك المرحلة، والتعامل معها، بعيدا عن معطيات العصر ومتطلبات اليوم، وفي نفس الآن من دون إسقاطات أو طابوهات، خاصة وان المغاربة من الجيل الجديد، تحذوهم رغبة أكيدة في رد الاعتبار لثقافتهم التاريخية، وترميم ثقوب ذاكرتهم الجماعية، والذهاب إلى بناء المستقبل وحقوق الإنسان، بعيدا عن جراحات الماضي الأليمة.
و يبقى موقف الخطابي، الذي عبر عنه من منفاه في القاهرة، أكثر المواقف راديكالية وانسجاما مع “الحالة الوطنية ” كما خلفتها الحقبة الاستعمارية. إذ أن وسائل الإعلام تداولت، وعلى نطاق واسع نص النداء الذي أطلقه الخطابي، حيث ورد فيه مايلي:
“إن التنصيص في هذا الدستور المزعوم على( ولاية العهد)، ماهو إلا تلاعب واستخفاف بدين الإسلام والمسلمين (…) إن المغاربة لا يحتاجون إلى دستور منمق بجمل وتعابير تحمل بين طياتها القيود والأغلال، إنهم يريدون تطبيق دستورهم السماوي الذي يقول: ” إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإذا حكمتم أن تحكموا بالعدل (…) هذا الدستور المزعوم، المقصود منه، تطويع الشعب المغربي وترويضه طوعا أو إكراها (…) وبهذه المناسبة أوجه ندائي إلى الشعب المغربي كله في قراه وحواضره وبواديه، أن ينتبهوا للخطر الماحق الذي يهددهم عن طريق اللعبة المفضوحة، فليس هناك دستور بالمعنى المفهوم للدساتير، وإنما فقط هناك (حيلة) ولا أضن ستنطلي عليهم، فقد شاهدوا مثيلات لها فيما مضى”.
وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن النزاع حول الشرعية، والمؤسسات، تواصل بالمغرب والى نهاية سنة 1975، حيث تقرر التحاق المعارضة الاتحادية بركب النظام في إطار ما سمي بالانخراط في “المسلسل الديمقراطي” و “الاجماع الوطني” بدعوى الوحدة الوطنية، ومرتهنة كذلك بما أسماه المهدي بنبركة ب “أنصاف الحلول”، فيما تشهد حالة المغرب حراكا شعبيا لانجاز ما علق من مهمات التغيير والإصلاح وان كان الأمر يحدث في إطار أجواء سياسية سمتها “الثقة” فيما أضفاه انتقال الحكم إلى الملك محمد السادس، على المشهد الوطني من سمات، المسؤولية والجدية، و “عدم النية”، في تكرار أخطاء الماضي، وهي بالتأكيد منطلقات أساسية، لإعادة ترميم المعمار السياسي المغربي، ووضع لبنات الانخراط في معركة بناء المستقبل لصالح كل أجيال وجهات المغرب.
موقف الخطابي من استقلال المغرب، ومن أول دستور للمملكة :
من هزيمة الريف إلى آفاق النضال لتحرير شمال افريقية
أ – حيال استعمال القوات الاستعمارية للأسلحة المحرمة دوليا (أسلحة الدمار الشامل) وبالأخص منها الغازات السامة من نوع (اللوست) أي السلاح الكيماوي حسب لغة العصر، وان كان لهذا التحول الدرامي في تعامل الاستعمار الغربي مع المنطقة، مقدمات سياسية وتعبوية ونفسية منها:
تضخيم الغرب الاستعماري لقدرات المقاومة الريفية، خاصة بعد الانتصار الباهر في معارك ( دهار أبران ، أنوال، أعروي، كوروكو)، وفي هذا الصدد، وتهييئا لشروط الانتقال من مستوى استعمال السلاح المبرر دوليا إلى مستوى حشد التحالف الدولي ضد الريفيين، ومن ثم إعداد النفوس الغربية لتقبل فكرة استعمال الغازات السامة…
وفي هذا الإطار أورد كاتبا “حرب الغازات السامة بالمغرب” أن المارشال بيتان، قد وصف الريفيين، وإبان التنسيق وإعداد الضربة ب : “العدو الأفضل تسلحا ذي القوة الضاربة التي لم يسبق لفرنسا أن واجهت مثله، خلال تاريخها الكولونيالي لحد الآن” وفي هذا يتشابه موقف التحالف الاستعماري بالتبرير الذي قدمه “التحالف الدولي” لضرب العراق بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، ونفس التبرير الذي قدمه نفس التحالف (الإرهاب) للتدخل في افغانستان وحاليا في مالي !!!
وفي هذا السياق حصل التمرد داخل اسبانيا وانقلب الجيش على السلطة الملكية، بزعامة “بريموذي ريفيرا” الذي التجأ إلى الأسلحة السامة، ووعد الشعب الاسباني وحلفاءه الاستعماريين ب “حل سريع ومشرف لمشكل المغرب” وذلك طبعا عبر تدمير جبال الريف وتلويث المنطقة !
إذا إزاء هذا التحول الخطير في معادلة المقاومة في مواجهة الحرب الكيماوية وأمام الوضع الداخلي لجهة المقاومة والتي عانت من سوء الفهم الكبير للمخزن (الذي لم يكن آنذاك يملك قرار نفسه) ومن جهة ثانية مع الزوايا المتخاذلة التي عبر كثير منها عن عدائها لمواقف الزعيم الريفي محمد بن عبد الكريم الخطابي خاصة في جانبها التقدمي والتحديثي … أمام هذه التحولات الداخلية والخارجية فقد قرر الخطابي رفع راية الاستسلام للقوات الفرنسية، وهكذا وبتاريخ 27 غشت 1926 نقل الخطابي رفقة أسرته عبر القطار من تازة إلى الدار البيضاء، ومنها إلى جزيرة لارينيون التي وصلوا إليها عبر باخرة “عبدة” في 10 اكتوبر 1926 حيث أمضى الخطابي 20 سنة و 6 أشهر رهن المنفى. وفي تاريخ 31 ماي 1947 وبعدما قررت فرنسا نقل الزعيم وأسرته إلى فرنسا فضل هذا الأخير وبتنسيق مع زعماء الحركة الوطنية المتواجدين بالقاهرة … (مع الإشارة إلى وجود التباسات في هذا الشأن) النزول بميناء بور سعيد، وطلب اللجوء السياسي في مصر حيث واصل محمد بن عبد الكريم الخطابي، رسالة النضال من أجل الاستقلال، لكن هذه المرة من أجل استقلال أقطار المغرب العربي الكبير.
ب – إذا كان من الثابت أن منهجية محمد بن عبد الكريم الخطابي في النضال من أجل الاستقلال ترتكز على الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية ذات النفس الطويل، والتي باتت مدرسة ثورية، نهلت منها كل ثورات العالم من شرق آسيا (ماو، وهوشي منه) إلى أمريكا اللاتينية “شيكيفارا”، فمن الثابت أيضا أن رواد الحركة الوطنية المغربية والذين ساهموا في تحرير أسر الخطابي بالقاهرة، ومن “نصبوه” زعيما على مركز “مكتب المغرب العربي” سنة 1947 والذي ضم حركة المغرب والجزائر وتونس قصد التعريف بقضايا شمال إفريقيا ونضالات شعوبه من اجل التحرير من ربقة الاستعمار، إلى أن منهجية “الحركة الوطنية المغربية” المرتكزة على أسلوب التدرج، والحوار والمراهنة على النضال “المنبري” بدل الكفاح المسلح، وهو ما أفضى بعموم التجربة إلى التفريط في استقلال كامل في تراب المغرب والى يومنا هذا، ومن تم التفريط في هذه الديمقراطية الحقيقية والاستقلال الحقيقي كما أكد ذلك (ناطق من أهلها) الزعيم المهدي بنبركة في كتابه “الاختيار الثوري” حيث أشار إلى “الأخطاء القاتلة” (المراهنة على أنصاف الحلول – غياب الديمقراطية – القضاء على جيش التحرير) … لكل ذلك حدث الاصطدام بين المنهجين والأسلوبين، منهج الخطابي في التحرير وأسلوب “الوطنيين” في التناور والبحث عن أنصاف الحلول … وهكذا انفرط عقد مكتب المغرب العربي فأقدم الخطابي على تأسيس لجنة تحرير المغرب العربي والأنوية الأولى لجيش التحرير بالمغرب وبعموم شمال إفريقيا، فيما تواصل النضال الكواليسي لتحقيق استقال “اكس ليبان” الذي أسماه الخطابي ب الاحتقلال أي المزج بين الاحتلال والاستقلال، كما أسماه ب اكس الليبان، أي انكشاف الملعوب، حيث أن الخطابي وكشأن كل الثوار الكبار كان لاذعا في استعمال أساليب توصيف خصومه والاعبيهم .. ومن خلال هذه التطورات تواصل نفس الموقف “الثوري” للخطابي بصدد موضوع استقلال المغرب حيث عارض دستور الاستقلال وسفه شأنه شأن المعارضة الراديكالية بصدد الوثيقة الدستورية الجديدة لسنة 1962.
الخطابي في قلب “عاصفة الاستقلال” :
لخص المؤرخ والمفكر عبد الله العروي، الحالة التي غيبت فيها “الحركة الوطنية” تجربة الخطابي، الكفاحية والسياسية، وبالعكس منها تغييب الخطابي لمساهمة “الوطنيين” الآخرين علال الفاسي (ومن “قادة الاستقلال” و “الشورى والاستقلال”) بالتعبير عن تعجبه من “تحييد تجربة” الخطابي السياسية والاحتفاظ فقط بصورته كعسكري مقاتل، “العنصر العسكري والعاطفي أو الأسطوري، ويطغى على أي تحليل سياسي موضوعي مفصل يتناول نقاط القوة عند عبد الكريم، ومكامن ضعفة”. ليفضى به تعجبه ذاك إلى التأكيد عن حجم الخسائر، التي نتجت عن هكذا إجحاف في حق ركني المعادلة: الخطابي والفاسي (علال) حيث يقول (طبقا لما ورد في كتاب عبد الكريم وجمهورية الريف ص.489) في حق الزعيمين:
“شخصيتان مرموقتان، وجهان عرفا العظمة، ولكنهما عرفا الفشل: الأول في ساحة المعركة، والثاني لاحقا، وبشكل قد يكون أكثر مأساوية على طاولة المفاوضات. ولم ينهض المغرب من هذا الفشل المزدوج، أما نحن، نحن الذين علينا بناء هذا المغرب المهدوم … طالما سمعنا رسالة علال الفاسي، أما آن لنا القيام بحل رموز الكلام المتقطع لعبد الكريم الريفي؟”
من جهته قدم المؤرخ زكي مبارك صورة واضحة عن المستوى “الوضيع” الذي وصل إليه الصراع السياسي بين زعامات المغرب، في تلك الحقبة. اذ يستخلص في كتابه “محمد الخامس وابن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب” هذا المستوى الى حد اتهام الخطابي على لسان عبد الكريم غلاب الذي قال والعهدة على المؤرخ زكي مبارك: “أصبحت مواقفه (أي الخطابي) مطبوعة بالشدة والاضطراب ولم يكن يؤمن بالحركة الوطنية، ولا بالعمل الوطني، ويؤمن بالقتال، وعندما نتحدث إليه عن العمل السياسي يرفض ذلك، ويشير بيده وكأنه يحمل مسدسا (…) ظل عبد الكريم الخطابي يؤمن بالعمل العسكري، ولما قام العمل العسكري في بلدان المغرب العربي، سواء جيش التحرير أو ثورة الجزائر أو الفلاكة في تونس، إلا أنه لم يقتنع بذلك” !
ويكون رد الخطابي نفسه صارما ومبدئيا، وكأنه ينازل أعدائه في أحراش أنوال وذلك في بيانه ضد “صفقة” الاستقلال، كما نقله زاكي مبارك في نفس المرجع المذكور سابقا: “إن المغرب لا يمكن أن يعتبر مستقلا إلا إذا انسحب عنه الجيش الفرنسي، ولم يبق بالإدارة المغربية أجنبي، وان تعرب كلها، إن الاستقلال الذي يتوهم المغاربة معه أنهم مستقلون ليس إلا مخدرا ناولته فرنسا المغرب لتتفرع لمحاربة الشعب الجزائري المكافح … إن الثورة المغربية جاشت في صدور الأمة، حتى إذ أتت أولويات ثمراتها تزعمها متخرجو المدارس الفرنسية … ستعلم يوما الأحزاب السياسية المغربية أنها كانت خاطئة في الانحناء أمام الاستعمار بالمغرب مع أنها تعلم أن الشعب المغربي لا يزال يحمل من روح الثورة ما يكفيه لمواجهة رواسب وبقايا الاستعمار في بلاده”.
بيد أن ما يهم في هذا البحث، ومن خلال استعراض طبيعة مستوى الصراع السياسي بين المدرستين النضاليتين حول الاستقلال وغيره هو لملة الذاكرة الوطنية في أفق أرحب، وملامسة القضايا العالقة (الديمقراطية، استكمال تحرير التراب الوطني) من اجل مستقبل أكثر تحررا وتقدما وإنصافا للذاكرة و المجال والإنسان.
مواقف النخبة المغربية من دستور 1962:
قبل استعراض وبتركيز شديد مواقف محمد بن عبد الكريم الخطابي من دستور 1962 ارتأينا في البدء تقديم بعض وجهات النظر بصدد هذا الدستور خاصة منها المؤثرة في المشهد السياسي الوطني، وهي وجهات مختلفة أشد الاختلاف بحيث أن الزعيم الوطني علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال قد انفرد بالدفاع عن هذا الدستور فيما اعتبر معارضي الدستور مجرد ملحدين ومهرجين ومدعين … فان علي يعتة زعيم الحزب الشيوعي وبلحسن الوزاني وشيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي قدروا أن الدستور قد جاء مناقضا للإسلام والديمقراطية، فيما ذهب أقطاب “الاتحاد الوطني” عبد الله إبراهيم والمعطي بوعبيد إلى أن الوثيقة هي دستور للأعيان ونكتفي هنا باستعراض كلمة لعبد الرحيم بوعبيد حيث علق على الدستور في اجتماع حزبي (غطته جريدة المحرر بتاريخ 15 نونبر 1962 وأعادت مجلة “وجهة نظر” نشره ضمن ملف خاص حول “الإصلاح الدستوري ومأزق الانتقال الديمقراطي” عدد مزدوج 25/26 سنة 2005) وجاء في كلمة الزعيم الاتحادي ما يلي:
“إن الدستور الذي يريده الشعب هو الدستور الذي يصنعه بنفسه، أما الدستور الحالي الذي صنعه الجانب مستشارو “جوان” و “كيوم”، فهو دستور أجنبي عنا وسري، ولذلك فان كل الأسس التي تقوم عليها الدعاية لهذا الدستور لا ترتكز على أي أساس متين لأنها لا ترتكز على قاعدة صحيحة وهي قاعدة الإرادة الشعبية”.
ويذكر أن نفس المواقف الرافضة لدستور 1962 والداعية إلى مقاطعته عبرت عنها أيضا قطاعات مختلفة ومن كل الأطراف الثقافية والدينية، وفي هذا السياق نشير إلى إصدار نداء يدعو إلى مقاطعة الاستفتاء على دستور 1962 وقعته نخبة من اليهود المغاربة ضدا على المواقف التي عبرت عنه لجان الجماعات الإسرائيلية والحاخام الأكبر من دعوة إلى الموافقة على الدستور المذكور ويقول اليهود في ندائهم من اجل مقاطعة الدستور: “إن الموقعين على هذا النداء، حرصا منهم على مستقبل الديمقراطية في وطنهم ونظرا لإدراكهم للمصالح الحقيقية لليهود المغاربة يطلبون إليكم أن تنضموا إلى صفوف القوى الديمقراطية والتقدمية والى صفوف جميع العمال والى صفوف أولائك الذين يناضلون من أجل مجتمع أفضل”.
هل استوعب المغاربة دروس وعبر الخطابي؟
الحق أن حركة التحرير التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي، ومن قبله محمد الشريف امزيان، وكذلك حركة التحرير التي قادها الهيبة عام 1912، وغيرها كما قال المناضل عبد الرحمن اليوسفي “ذات مضمون جديد، بل ثوري، لا يمكن أن ترتبط به مؤسسة كان نموها يتم على حساب القطاع الزراعي” ومن ثم فهي ثورة فلاحين قرويين تملكوا ناصية “القرار السياسي الشعبي”، فنهجوا منهج “الكفاح المسلح” بديلا “للنضال السياسي المنبري” في ظروف سمتها الغالبة هي طغيان التقليد والهيمنة الثقافية للزوايا، وهي الحالة التي وصفها الخطابي نفسه في معرض تقييمه لأسباب الفشل، حيث أوردت جريدة “المنار” المصرية في عدد 5 نونبر 1926 تصريحا للخطابي يقول فيه : “لقد أطلقنا على بلادنا تسمية جمهورية ريفية منذ سنة 1923، ولقد عملنا لهذا الغرض على طباعة منشورات رسمية في فاس كتب عليها عبارة “جمهورية الريف”، كي نشير إلى واقعنا كدولة مكونة من قبائل مستقلة فدرالية، وليس كدولة تمثيلية قائمة على برلمان منتخب، هكذا فان كلمة جمهورية لم تأخذ في ذهننا معناها الحقيقي إلا بعد حين، لأن جميع الشعوب تجد حاجة في بداية تشكل نشوئها، إلى حكم حازم وسلطة قوية إلى منظمة وطنية نشيطة” (…) مستدركا “لم أفهم، لقد اعتقد الناس أننا سنعيد بعد الانتصار للقبائل حكمها الذاتي، هذا ما كان يعني العودة إلى الفوضى والبربرية” ينتهي بتوضيح أسباب الفشل قائلا: “لن تستطيع الدولة الإسلامية أن تستقل إلا إذا تحررت مقدما من التعصب الديني، واقتفت أثر الشعوب الأوربية … (…) إلا أن الريفيين لم يفهموني وقد ناهضني الشيوخ، لأنهم شاهدوني مرة لبست زي ضابط. (…). “لم ألقى في الريف أي تشجيع كي أحقق مشاريعي الإصلاحية، ولم تفهمني سوى المجموعات الصغيرة في فاس والجزائر وقد دعمتني كونها كانت قد اطلعت على ما يدور في الخارج. وبكلمة واحدة فلقد أتيت قبل أواني، ولكني مقتنع بأن آمالي ستتحقق آجلا أم عاجلا بقوة الأشياء ومنطق الأحداث”…
ومما لا شك فيه أن فتح ورش الذاكرة الوطنية المغربية، كخلاصة “لهيئة الإنصاف والمصالحة” ومبادرة ثلة من المثقفين المغاربة بتنظيم أنشطة مغاربية تضم إصدار كتب، وندوات وعرض أفلام وثائقية، وتنظيم قافلة وطنية للتعريف بالحدث … هي بداية تعميق السؤال عن ماضي المغاربة المشترك ومن ثم الجواب الجماعي عن التحديات الراهنة في ضل الحراك السياسي الراهن. ألا يتضمن السؤال الصحيح نصف الجواب كما قيل؟ … ثم ألا تشكل مقاربة الجهوية الموسعة مناسبة لاستخلاص العبر من دروس التجربة الريفية؟…
أحمد البلعيشي
الحسيمة