” كوفيد 19 وضع استثنائي وتمرين حقوقي جديد “
صدر ظهير إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990 ، ومنذ تاريخ إحداثه عرف عدة تحولات وتطورات مهمة، خاصة وأن لحظة إحداثه كانت مؤشرا قويا لبداية مرحلة من الانفتاح الليبرالي التي عرفها المغرب، ضمن سياق دولي متحول حمل معه إرهاصات قوية لبداية مشجعة عزز من زخمها القوي مد من الأفكار المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وجاءت المرحلة الهامة الثانية بعد إعادة هيكلته في 10 أبريل، باعتباره مؤسسة وطنية معنية بالأساس بالدفاع عن حقوق الإنسان حماية ونهوضا وليست مجرد مؤسسة مهتمة بالحقوق الإنسانية على حد تعبير أحد الباحثين المغاربة، لتتحول بعد صدور الظهير الجديد المنظم لها 19.11.1 من مجلس استشاري إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في فاتح مارس من سنة 2011 .
وقد تزامن ذلك مع سياق اجتماعي وسياسي خاص ارتبط بالحراك الإقليمي والوطني المتعارف عليه في الأدبيات السياسية والاجتماعية بحركة 20 فبراير، وهو المسار الحافل الذي أفضى خلال 2018 إلى استصدار القانون الجديد رقم 76-15المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني لحقوق الإنسان على ضوء صلاحياته الجديدة التي تأخذ بالآليات الحقوقية الثلاث ذات الصلة بكل من الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، والآلية الوطنية لتظلم الأطفال ضحايا انتهاكات حقوق الطفل، والآلية الوطنية الخاصة بحماية حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة، وهو القانون الذي أثار نقاشا “مؤسساتيا” طويلا، ساهمت فيه وزارة العدل والأمانة العامة للحكومة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، إضافة إلى جهات رسمية أخرى .
والمجلس الوطني مؤسسة حقوقية ذات ولاية عامة، على غرار الشبكة الدولية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، التي تحظى بتحفيز خاص من مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وظيفته بالأساس استشارية تتولى حماية حقوق الإنسان والنهوض بها وتتبع وتقييم مدى فعاليتها من خلال أوراش السياسات العمومية، وليست له صفة قضائية أو تقريرية، ويعمل في سياق أهداف مخرجاته الخاصة على تقديم الاستشارات الحقوقية والقانونية للمؤسسات الوطنية في المعضلات الاجتماعية الكبرى، وفي نفس الوقت صياغة توصيات وتقديم آراء ومقترحات حقوقية، كما أننا أمام مؤسسة وطنية تتمثل مهمتها في مساعدة الملك في جميع القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان من خلال الآلية الرصينة للتقارير التي يعمل على إنجازها في الموضوع، وتقديمها للسلطات العليا في البلاد وفق مسطرة قانونية محددة لا يمكن المحيد عنها .
وليس أدل على ذلك من تقريره السنوي الأخير لسنة 2020 عن حالة حقوق الإنسان بالمغرب في موضوع ” كوفيد 19 : وضع استثنائي وتمرين حقوقي جديد “، ونسجل بإيجابية على ولاية المجلس الحالية التزامه بإصدار تقاريره بشكل منتظم وفي مواعيدها المحددة، خلافا للفترة السابقة المتراوحة بين 2011 و2018 إذ لم ينشر للأسف أي تقرير، إذا استثنينا من ذلك الوثيقة أو المذكرة التي قدمت أمام البرلمان سنة 2014 عن حصيلة أنشطة المجلس استنادا للفصل 160 من الدستور، والتي كان الهدف منها الشروع في تنفيذ الآلية الدولية ذات الصلة ب “مبادئ بلغراد ” التي انضمت إليها بلادنا مبكرا في سنة 2012، وفي إطار العلاقة القائمة بين المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان المستقلة والمؤسسات البرلمانية على أساس من التعاون وحتى المساءلة والتقييم ليس أكثر، حيث عمل المجلس الوطني في تركيبته الجديدة بعد 2018 على نشر ثمانية تقارير، تتخللها مذكرات / توصيات، آراء استشارية وملاحظات، من بينها التقرير السنوي عن حالة حقوق الإنسان بالمملكة المغربية سنة 2019 ، والتقرير الموضوعاتي حول احتجاجات الحسيمة، والتقرير الموضوعاتي حول احتجاجات جرادة، والتقارير الصادرة عن مؤسسة وطنية في مثل هذه المكانة والحجم، تعتبر آلية مهمة ومناسبة للتكوين وتعزيز قدرات ومؤهلات القارئة والقارئ، والاطلاع عن كثب عن الوضعية الحقوقية في بلادنا، والديبلوماسية المنتهجة بخصوص السياسات العمومية المرتبطة بمصالح الساكنة ومعاشهم اليومي، وفرصة لإطلاق النقاش العمومي المتزن والحكيم، مثل نموذج المحاكمة العادلة عن بعد، ولكونه آلية مرجعية تصلح للترافع والمناصرة، وفي منأى عن الإغراق في المفاهيم الشكلية، وتناسي جوهر المضمون وقوة دلالته .
وبناء منهج قانوني ثابت التسلسل على مستوى احترام المواعيد السنوية التي أصبح المجلس الوطني في حلته الجديدة يأخذ على نفسه الالتزام بها، لا يعكس فقط احترام المقتضيات المنصوص عنها في أحد فصول الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 ، بل بالدرجة الأولى التماهي الناجع مع معايير ومطالب لجنة التنسيق الدولية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان من خلال لجنتها الفرعية التي تختص بالنظر في طلبات اعتماد المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان وطلبات إعادة اعتمادها بناء على تصنيفها في درجة ” أ “، وهي الرغبة التي يصعب تحقيقها أمام هذه الآلية الأممية في حالة انتفاء الشروط الموضوعية المؤهلة لذلك، وفي مقدمتها عنصر ” الملاءمة ” الضامن للحماية الحقوقية، وتعتبر التجربة المغربية رائدة في هذا التصنيف المتقدم الذي دأبت على إحرازه راهنا وفي العديد من المحطات السابقة .
وقد تميز هذا التقرير السنوي بجملة من الخصائص والمميزات، سواء على مستوى المنهج أو المضمون، بالنسبة للمنهج فقد تمكن من الجمع بين الاستقراء الدقيق، والموضوعية المتوازنة، فكما يثمن حصيلة المكتسبات الحقوقية التي حققتها بلادنا خلال السنة، ينبري في الآن ذاته ليرصد ويسجل الملاحظات والثغرات التي تندرج في إطار الإكراهات والصعوبات التي يمكن تجاوزها وتصحيح اختلالاتها عبر التعاون والتضامن وتظافر الجهود الحقيقية بين جميع الأطراف المعنية، أما على مستوى المضمون الحامل لأجزاء التقرير وفقراته، فإنه يحيلنا على غنى وثراء طبيعة مكونات المنظومة الحقوقية المرصودة لفائدة جميع الشرائح والطبقات الاجتماعية بالمغرب .
ومقصدنا من ذلك بالأساس، التذكير بالمحاور الستة المشكلة للحمة التقرير ومضامينه الجوهرية، التي صيغت من خلال الرصيد الموثوق والصحيح لشبكة من المعطيات والمعلومات القائمة على التحري العميق والتنقيب في أهم المصادر التي يحرص المجلس الوطني على اعتمادها في منهجية تقريره، مع تعزيز خطته الاستراتيجية في هذا السياق بما يتوصل به تباعا من آلياته الجهوية من وثائق وإفادات متزنة، إضافة إلى جملة من آليات الرصد الأخرى التي يتقاسمها مع شركائه من المؤسسات العمومية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، وأطياف واسعة من المجمع المدني، وهو الذي يحرص على احترام جمهور قرائه ومتتبعي إصداراته ومنشوراته من النساء والرجال بما يقدمه إليهم من أعماله الحقوقية الموسومة بالنزاهة والشفافية، البعيدة عن المهاترات وجميع أنواع التدليس الزائفة، وفي احترام دقيق لأساليب عمل المؤسسات الوطنية وشبكة التحالف العالمي لهذه المؤسسات التي تعمل في ضوء توصياتها وتوجيهاتها .
وهي المحاور التي تحضر في تداخل متماسك، يصعب الفصل بين أجزائها، مما يؤكد مراعاة معدو التقرير في المجلس للمعايير الدولية التي تقوم على الوحدة الشاملة للحقوق وعدم قابليتها للتجزئة، وأخذا بعين الاعتبار في هذا المقام مرجعية الاتفافيات والمواثيق الدولية التي تنهل من القانون الدولي لحقوق الإنسان، وكذلك اعتماد القوانين الوطنية ذات الصلة، وبالخصوص مبادئ باريس لسنة 1993 القائمة على الموضوعية والتعددية، الأمر الذي يحيلنا على جسر مفتوح تتناغم فيه المبادئ القائمة على حماية حقوق الإنسان، مع الاعتبارات المستندة إلى النهوض بثقافة حقوق الإنسان ببعديها الاقتصادي والاجتماعي، وفي تلاحم مع تقييم وتتبع فعلية الحقوق بالسياسات العمومية والبرامج الجهوية، وهو المسلك الجديد والمفيد الذي ارتأى المجلس الوطني أن يعزز به مؤخرا مساره الحقوقي، رغم ما يمكن أن يتطلبه اختيار دقيق كهذا من إعمال للجهود، وفرض بعض المساحات من التعقيدات ذات الأساس الدستوري والقانوني، من قبيل التقاطعات والتمفصلات القائمة بين مفاهيم على النحو التالي : السياسة العامة، السياسات العمومية، القطاعات الحكومية، السياسات الترابية للجماعات والجهات، البرامج، المشاريع، والجدل الحقوقي والمفاهيمي المتألق الذي لا يزال قائما في هذا الصدد .
وبما أنه يصعب الحديث على ضوء المعايير الدولية بوجود منهجية معينة يمكن الاقتداء بها، و المجلس الوطني بصدد إعداد تقرير حقوقي يروم تسليط الضوء على حالة حقوق الإنسان في بلد من بلدان العالم، حيث يبقى الاجتهاد القائم على مراعاة جملة من الخصوصيات هو المبدأ الراجح الذي يمكن الاستئناس به خلال العمل، ولكوني عضوا باللجنة الجهوية لحقوق الإنسان طنجة تطوان الحسيمة، هذه الأخيرة التي تعتبر أحد الآليات المنضوية في إطار المجلس الوطني، فإني أتوجس خيفة من أن نتهم مجددا في التعليقات التي يمكن صدورها مستقبلا، والذهاب في اتجاه أن تقرير المجلس قد لجأ إلى المزج بين حالة حقوق الإنسان وحصيلة عمله السنوية، كما أن التقرير حاول جاهدا أن يكون شاملا ومستوفيا لأهم الجزئيات والتفاصيل التي يمكنها أن تنير حتى عتمة بعض المساحات المسيجة بظلال قاتمة .
إن اللغة والمنهج المعياريين اللذين كتب بهما تقرير المجلس الوطني لتؤكد تناوله الشامل لجميع الحقوق المندرجة في العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون أن يصرف نظره عن حقوق الجيل الثالث الجديدة، مثل الحق في التنمية والتضامن الوطني والدولي، وأيضا الحق في البيئة السليمة والأمان الشخصي، والحق في التراث المشترك للإنسانية جمعاء ” التحافة “، والحق في العيش المشترك والتربية على القيم والسلوك المدني ، وهي أمثلة نسوقها على سبيل الاستشهاد لا التقيد أو الحصر، ومن ثمة فهي من سمات المنهج الحقوقي المتقدم الذي يتقاسم المجلس خصائصه المشتركة مع المؤسسات الوطنية العتيدة في أوروبا وأمريكا والدول الإفريقية العريقة، ومع المنظمات الحكومية وغير الحكومية ذات الاختصاص على الصعيد الدولي .
كما تضمن تقرير المجلس الوطني في جانب رئيسي من مكوناته وضعية حقوق الإنسان بالمغرب ومدى تأثرها بتداعيات جائحة كوفيد 19 ، وهي الحالة التي تجد امتدادها الطبيعي في نظرية الظروف الاستثنائية التي يقر بها القانون الدولي لحقوق الإنسان، هذا الأخير الذي تسمح مواثيقه الاتفاقية وصكوكه الدولية إباحة بعض المساس أو التقليص من نسبة الحريات والحقوق أثناء بعض الأزمات والصعوبات الداخلية الناجمة عن مشاكل وطنية ودولية، خاصة عندما يكون العالم بأسره يعاني من تبعاتها، حيث نجد أن الفرد يخضع في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط .
لذلك جاء تقرير المجلس الوطني منسجما مع هذه المرجعية الأممية في ممارستها، تحقيقا للمقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي، وحرصا من المجلس الوطني على ملاءمة ومطابقة القانون الوطني مع المعايير الدولية ذات الحجية والقوة في الأولوية، خاصة أمام وجود المادة الرابعة من العهد الدولي المدني والسياسي التي تنظم حالة الطوارئ الاستثنائية المهددة لحياة الأمة، والإجراءات المقيدة والمرافقة لها، شريطة الحرص على عدم وجود تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي خلال حالة الطوارئ الصحية والاستثنائية، ونظرا لهذه الوضعية الخاصة، لم يكن أمام المجلس من خيار، سوى أن يكيف موضوع تقريره مع قوة مخلفات هذه الأزمة الإنسانية العاصفة، التي لم تعرف لها البشرية مثيلا في تاريخها ” كوفيد 19 وضع استثنائي وتمرين حقوقي جديد ” .
ينضاف إلى ذلك، تضمن التقرير لتوصيات خاصة تتعلق بهيئة الإنصاف والمصالحة بقصد استكمالها وضرورة العمل على تنفيذها، وتوصيات عامة بلغ عددها أربعون، وهي توصيات قوية ذات أفق مستقبلي واضح، تفتح بابا للأمل الحقيقي نحو غدنا المنشود، لكونها تتوخى تعزيز منظومة حقوق الإنسان في بلادنا حماية ونهوضا، وتفتح الطريق من أجل المساهمة في بناء دولة القانون والمؤسسات والحريات والحقوق الأساسية، وفي نفس الوقت الرفع من مصداقية ونزاهة المؤسسات العمومية بمختلف تلاوينها وتقوية إطاراتها التشريعية، في ظل من الحكامة والتدبير النظيف وسيادة حكم القانون .
لذلك أتمنى أن يقبل الجميع على قراءة التقرير خاصة في أوساط مختلف النخب، ومن المهتمين والمتتبعين للشأن الحقوقي في بلادنا، سيما وهو يعكس ويترجم فترة دقيقة وحاسمة من تاريخنا الوطني المعاصر، وأخذ محتوياته بما تستحقه من تمعن وتفحص موضوعي سديد، دون تناسينا لمسألة تثمين قرار مجانية التلقيح المندرجة ضمن خانة الحق في الصحة، والإشادة بابتكارات الشباب والشابات التي لها علاقة بقطاع الصحة خلال فترة الحجر الصحي، وتسجيل لجوء المواطنات والمواطنين أمام موجة الهلع والخوف إلى الاحتماء بدولتهم إسوة بأغلب شعوب العالم، وهي كلها قضايا حقوقية وجدت لها صدى قويا في تقرير المجلس الوطني لسنة 2020 .
وكما جاء في هذا السياق ضمن كلمة السيدة رئيسة المجلس الوطني الافتتاحية ” أمام كل هذه الأسئلة والإشكاليات، يبقى شيئ واحد أكيد ومؤكد، ويتمثل في نهاية براديغمات ونماذج الأمس … سنظل نحتفظ في صلب ذاكرتنا الوطنية، بذكرى عزيزة، تذكرنا بآلاف المغربيات والمغاربة الذين فقدناهم وقضوا نحبهم بسبب الجائحة “
ذ : محمد لمرابطي