صدر كتاب «الديمقراطية وحقوق الإنسان» للدكتور محمد عابد الجابري بطبعته الأُولى في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1994 وأُعيد نشره بطبعته الثانية في آب/ أغسطس عام 1997 وذلك عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وفي سلسلة الثقافة القومية رقم «26»، أو قضايا الفكر العربي رقم «2».
وهنا وقبل كل شيء نودّ القول إننا لسنا من دعاة المركز المذكور، ولا من المروّجين لأفكار الدكتور الجابري، لا استنكافاً في الانتماء للأول ولا زهداً في أفكار الثاني، وإنما لأننا نختلف مع منهج الإثنين في هذه القضية أو تلك، وربما لا نتفق معهما في هذا السياق أو ذاك.
وأما الذي دعانا لقراءة أفكار الدكتور الجابري في أول كتاب لنا يصدر في سلسلتنا الثقافية المعاصرة هذه، فهو إعجابنا بهذا الكتاب، وإيماننا بأن الاختلاف الإيجابي هو الذي يقود إلى النضج والتكامل والرشد لا سيّما في معرض التأسيس لنظريات أو آفاق المجتمع المدني الذي يراد له التنظير أو التأسيس في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر.
الديمقراطية Democracy لفظة معرّبة مشتقة من لفظتين يونانيتين هما «ديموس» Demos أي الشعب، و «كراتوس» Cratos وتعني السلطة أو الحكم. فتصبح في معناها الأدقّ: وضع السلطة بأيدي الشعب، أي تمكينه من الحكم وليس كما جرى استخدام اللفظة شياعاً بمعنى «حكم الشعب».
وقد عرّفت الموسوعة السياسية، «الديمقراطية»: بأنها نظام سياسي، اجتماعي، يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأيْ المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظّم الحياة العامة للناس.
وتتضمّن مبادئ الديمقراطية ممارسة المواطنين لحقهم في مراقبة تنفيذ هذه القوانين، مما يصوب حقوقهم العادلة وحرياتهم المدنية وقيام تنظيم الدولة وفق مثال:«حكم الشعب لصالح الشعب بواسطة الشعب»، وبتعبير أدقّ: إنها نظام سياسي أو اجتماعي يمثَّل فيه الشعب بنوّاب مفوّضين عنه لأجل معيّن؛ بمعنى أنها سلطة متّصلة بالشعب بنوّاب مفوّضين عنه لأجل معيّن؛ أي أنها سلطة متّصلة بالشعب، خلافاً للسلطة المسلّطة عليه «الدكتاتورية»، وخلافاً للسلطة المنفلتة أي الفوضوية.
ويمكن القول إن أوّل من مارس الديمقراطية بمعناها الواسع هم أهالي مدينتي أثينا وأسبرطة في القرن الرابع قبل الميلاد، إذ كانت في كلّ من هاتين المدينتين حكومة منبثقة عن اختيار أهالي المدينة لرجالها بأجمعهم، وكان الاسم الذي يُطلق على هذه الحكومة هو «حكومة المدينة».
وفي بعض الأحيان كان كل أفراد المدينة يشاركون في حكم مدينتهم، إذ يجتمعون في هيئة تسمّى «جمعية عمومية»، فيتشاورون في كل أُمور الحكم، وينتخبون الحاكم، ويُصدرون القوانين ويشرفون على تنفيذها، ويضعون العقوبات على المخالفين، ما يعني أنّ «حكم الشعب» هذا كان مطبّقاً بصورة مباشرة في كلتا المدينتين المذكورتين، وكانت لفظة الديمقراطية ـ المباشرة ـ منطبقة على الواقع تمام الانطباق.
إلاّ أن هذه الصورة المثالية الجميلة من صور الديمقراطية انتهت بانتهاء «حكومة المدينة» في كلّ من أثينا وأسبرطة، وإن ظلّت محفورة في ذاكرة الأجيال كصورة من صور الحكم المرغوبة والمطلوبة.
ولما كانت الديمقراطية نقيض الدكتاتورية، فهي على النقيض تماماً من نظرية «التفويض الإلهي» التي شاعت في أُوربا، وكانت تؤكد أن الملوك ورؤساء الدول قد تمّ اختيارهم من قبل الله، وبالتالي فإنهم لا يستمدون شرعيتهم أو شرعية سلطانهم من شعوبهم، بل من هذا التفويض الذي مصدره الله، وأنّ أي اعتراض على هؤلاء الملوك إنما هو اعتراض على حكم الله، وهو ما عناه الملك لويس الرابع عشر بقوله الشهير:«إنا الدولة والدولة أنا» أو ما قاله غليوم الثاني: «أنا المختار من السماء الذي يستمد سلطانه من الله».
وبعد سيادة مصطلح (الحق الإلهي) المنبثق من نظرية التفويض هذه، لا سيّما تلك التي وسمت العهد الروماني في ظل الكنيسة، وبعد عهد الإقطاع الغربي، لم يبق للأُمّة وجود حقيقي إلاّ بوصفها «قِطَعاً آدمية لاصقة بالطين لا كرامة لها ولا حقوق»، وصار الإقطاعي قنّاً من أقنان الملك يفرض أتاواته وضرائبه على الفلاحين بالقوة والإكراه، ويقدّمهم جنوداً «لجلالته» ليموتوا من أجل تحقيق أهوائه ومطامعه.
ومن هنا يمكن القول إن الديمقراطية ربما تكون أصلح من غيرها لإيجاد أرضية مشتركة بين أنظمة الحكم المتباينة في العالم، كالليبرالية والرأسمالية والاشتراكية والإسلام، ويمكن أن تشكّل مساحة التقاء بين الشرق الإسلامي والغرب، وتكون عنصر تواصل بين الأنظمة الشمولية والأُصولية من جهة، والأنظمة المعتدلة المتسامحة من جهة أُخرى، ذلك إذا أدركنا أن الشخصية الديمقراطية تتّسم بالمرونة والشفافية والرؤية الاستقلالية المعتدلة في الطرح والتنفيذ، ومعها القدرة على الانسجام مع الآخرين والاستعداد للانتماء للجماعة، كما أنّ صاحبها أطوع على التفاهم والتنسيق والعمل المشترك، فيما صاحب الشخصية الأصولية على العكس تماماً، إذ هو أميَل إلى القطعية والجزمية والنظر من زاوية واحدة وحادّة، ويتّسم بجاهزية حاضرة لإلغاء الآخر وإقصائه ومصادرته، وممارسة كل ألوان التهميش والاستبعاد ضده.
ولسنا هنا بصدد توضيح كل ذلك أو تفصيله، تاركين الشرح والتحليل لصاحب الكتاب «تحت اليد» أي الدكتور محمد عابد الجابري؛ لأنه سار بقدر لا بأس به من التأني والموضوعية في معرض حديثه عن الديمقراطية ونشوئها وتطورها، وكيف أنها اليوم ارتبطت أو باتت ترتبط بفكرة الانتخاب، وأنّ الديمقراطية الاجتماعية لا يمكن تحقيقها من دون ديمقراطية سياسية؛ لأن الانتخاب اختيار والاختيار إرادة وحرية، وهذه الأخيرة صراع ونضال وليست شعاراً ولافتات. كما وإن الحياة البرلمانية والحزبية وحرية الصحافة ومواسم الانتخابات، كلها فرص وإمكانيات لممارسة العملية السياسية، وتوعية الجماهير وتوجيهها توجيهاً نضالياً لتحقيق أهدافها في العدالة والكرامة والمساواة…
كل هذا وغيره سنأتي عليه من خلال تصفّح كتاب الجابري هذا، مع تثبيت بعض الملاحظات في ختام القراءة.
الديمقراطية والميلاد العسير
اختار الدكتور محمد عابد الجابري هذا العنوان ليكون فاتحة لموضوعه حول الديمقراطية باعتبارها مطلباً عربياً وإسلامياً لا بدّ من النضال من أجل تحقيقه، فيقول:
«… فالأُم التي ترغب في مولود يخرج من رحمها، محكوم عليها أن تتحمّل غثيان الوحم ووخزات الجنين وتقلّباته، وأيضاً كل ما يلزم من الحمية والحيطة، وما يتلو ذلك من عسر الوضع، وأحياناً، ولربما هذه حالنا، ما يتطلبه ذلك من عملية قيصرية… وإذن، فالديمقراطية في مجتمعاتنا العربية ليست قضية سهلة ـ ليست انتقالاً من مرحلة إلى مرحلة، بل هي ميلاد جديد ـ وبالتأكيد عسيرة…».
ولا يتردد الجابري أن يضع فصلاً أو عنواناً صارخاً يقول فيه: إن الديمقراطية هي الشرك في الحاكمية البشرية أولاً، وإذا سأل سائل لماذا الديمقراطية؟ فهو كمن يقول: لماذا الحرية؟ ولماذا الخبز؟ ولماذا الهواء؟ ولماذا الماء؟… الخ ويعلّل ذلك قائلاً:
«لا جدال إن الهدف المباشر من الديمقراطية هو إيجاد أحسن صيغة ممكنة لحلّ مشكلة الحكم، وذلك بجعل الحاكمين خاضعين لإرادة المحكومين، أو مضطرين للخضوع لهم خضوعاً منظماً مقنّناً تسهر عليه وتجعله فعلياً أجهزة ومؤسسات تُنتخب انتخاباً حرّاً من طرف جميع أفراد الشعب البالغين سن الرشد…» ويضيف:
«إن الديمقراطية في جوهرها ليست شيئاً آخر غير الشرك في الحكم، لأن الإيمان بوحدانية الإله هو مجرد الأساس في عقيدتنا الدينية، وهذا ما يجب أن نحافظ عليه ولكن مع الإيمان بأن كلّ شيء بعد الله متعدّد ويجب أن يقوم على علّة التعدّد، في مقدمة ذلك الحاكمية البشرية التي يجب أن نسلب عنها سلباً قاطعاً باتّاً صفة الوحدانية».
وما دامت الديمقراطية هي «حكم الشعب نفسه بنفسه» كما هو معناها اليوناني الأصلي، فإن فكرة «الشعب» تستدعي مقابلها، وهي فكرة «الدولة». وكل ما يتمناه «عاشق» الديمقراطية أو «المناضل» من أجلها هو إقامة مجتمع لا يقسّم فيه أفراد الشعب بصفة رسمية إلى سادة وعبيد، أو إلى نبلاء وأشراف من جهة، وإلى أرقّاء وأقنان من جهة أُخرى.
وحتى لو افترضنا أن الديمقراطية مرتبطة ارتباطاً تأريخياً بتفكيك النظام القبلي العشائري، وانهيار سلطة رئيس القبيلة ونشوء ظاهرة «المدينة» وفكرة «المواطن»، فإنها تعبّر عن ذلك المسلسل الطويل من الصراع بين الكنيسة والدولة، إذ أن كلاً منهما يريد أن يحدّ من سلطة الآخر ويجعل سلطته هو هي السلطة العليا، وبالتالي وكما يرى الجابري:
«إن الديمقراطية ليست موضوعاً للتأريخ، بل هي قبل ذلك وبعده ضرورة من ضرورات عصرنا.. أو مقوّم ضروري لإنسان هذا العصر، هذا الإنسان الذي لم يعد مجرّد «فرد» في «رعية» بل هو مواطن يتحدد كيانه بجملة من الحقوق التي في مقدمتها حق اختيار الحاكمين ومراقبتهم وعزلهم، فضلاً عن حق الحرية، حرية التعبير وإنشاء الأحزاب والنقابات والجمعيات، والحق في التعليم والعمل، والحق في المساواة مع تكافؤ الفرص السياسية والاقتصادية..».
وفي العصر الحديث، وابتداءً من القرن السابع عشر، أخذ الاستبداد بالسلطة يزداد اتساعاً وعمقاً مع ظهور المدن، وتشكُّل فئات التّجار والصنّاع كقوة اجتماعية ستصبح فيما بعد حاملة لواء النضال من أجل الديمقراطية، التي تعني بناء الحكم على الانتخاب الحرّ ومراقبة الحاكمين، مع الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية..
هذا في أُوربا، أما في الوطن العربي، فلقد سارت الأُمور سيراً آخر تماماً، ودون الرجوع إلى ما يعرف بـ«الاستبداد الشرقي» القديم في الحضارة المصرية الفرعونية أو في حضارات ما بين النهرين، حيث كان الفرعون أو الملك يتصرّف ليس كمستبد مطلق بل أيضاً كإله، فإن الحضارة العربية الإسلامية التي يرتبط بها واقعنا الراهن، قد ظلّ الحكم فيها مطبوعاً بطابع واحد لم يتغيّر قط، وهو طابع الحكم الفردي، فظلّ الحاكم سواء كان خليفة أو ملكاً أو أميراً دائماً فرداً سواء تولّى الحكم عن طريق «الرضا» و «البيعة» ـ وقليلاً ما حصل ـ أو عن طريق القوة والغلبة ـ وهو السائد طبعاً.
وقد ترسّخ هذا الواقع في الكيان العربي الفكري والوجداني إلى درجة أصبح معها الحُكم الأمثل الصالح، هو ذلك الذي يمارسه «مستبد عادل» أي الحاكم الفرد، الذي لا يظلم والذي يستشير في الملمّات والأُمور العظيمة، ولكن دون أن يكون مُلزَماً بأي شيء مما يُشار عليه به..
وهكذا جاء «النصح» وليس «الرقابة» أو «الحدّ» من السلطة هو الموضوع الرئيس في الفكر السياسي في الإسلام، وأنّ الحاكم الذي يقبل النصح ويعمل بشيء منه هو الحاكم الأمثل الفاضل. ولكن كم ـ مرة يتسائل الجابري ـ وُجد مثل هذا الحاكم الفاضل؟ مضيفاً:
«ألم يضطر الفقهاء في كل عصر إلى الإفتاء بجواز تولية «المفضول» على الأفضل؟ ولكن هل كانوا يستطيعون الإفتاء بغير هذا؟ وقد كانوا يتعرّضون دوماً لذلك «الخيار» المعروف وهو: إمّا هذا «القبول» أو هذا «السيف». أما الخروج على الإمام فقد تجنّبوا الإفتاء به بدعوى اتّقاء الفتنة، ومن هنا عملوا على تكريس المبدأ التالي:
الحاكم الظالم خيرٌ من وَضْعٍ لا حاكم فيه، وهو مبدأ كان من نتائجه ترسيخ روح الاستسلام واتخاذ مبدأ: «ليس بالإمكان أفضل مما كان» الذي أصبح قاعدة للموقف السياسي الرسمي السائد».
فضاء الديمقراطية
ويرى الدكتور الجابري أيضاً أن الديمقراطية يجب أن تستهدف تغيير الذهنية، ذهنية الإنسان العربي حتى يصبح قابلاً لممارسة الديمقراطية ممارسة حقيقية، بعد الإيمان بالتعدّد طبعاً ويقصد بالتعدد: التعدد الحزبي الذي يعتبره البديل عن الطوائف والأقليات والأثنيات، شريطة أن تحقق هذه التعددية نفسها بصورة إيجابية؛ أي أنها بديل للطائفية والقبلية والعشائرية ويقول:
«إن من مظاهر الانقلاب التأريخي المطلوب من الديمقراطية إحداثه في الوطن العربي هو انقلاب نوعي قوامه إحلال الولاء للفكرة وللاختيار الإيديولوجي الحزبي محلّ الولاء للشخص، حيّاً كان هذا الشخص أو ميتاً، شيخاً لقبيلة أو رئيساً لطائفة، وإحلال التنظيم الحزبي المتراكم محل التنظيم الطائفي والعشائري الجامد، كل ذلك وصولاً إلى تحقيق انتقال سليم للسلطة بمعناها الواسع …»
ولعل أول معالم الديمقراطية وأُولى ملامحها ، كما يرى الجابري ـ وحسب تعبيره ـ هو «حق طلب الكلمة»، ذلك أن مأساتنا في الوطن العربي هو أننا لسنا محرومين من الكلمة فقط، بل وأيضاً من «حق طلب الكلمة»، الحق الذي من دونه يفقد الإنسان هويته كانسان، إذ من دون النطق سيكون الإنسان «حيواناً….»، وبإمكانك أن تملأ النقاط بما شئت … وان من دون النطق، لا تغيير ولا ثورة ولا إصلاح … ولا أي شيء.. ويضيف:
«إن الصراع في الوطن العربي وفي بلدان كثيرة هو صراع من أجل السلطة… وإن شعارات الدولة العربية القطرية التي كان يُنظَر إليها من قبل على أنها كيان مصطنع، تأجلت الديمقراطية بسببه، أصبحت الآن حقيقة دولية، أي جزءاً من النظام العالمي، فضلاً عن أنها باتت كياناً وطنياً، اجتماعياً ، واقتصادياً، تربطه بأهله مشاعر وطنية قطرية تطغى على المشاعر
القومية الوحدوية حتى بين صفوف القوميين أنفسهم، وهذا يستدعي عدم تأجيل الديمقراطية بدعوى أولوية القضية القومية، أو قضية الوحدة العربية المزعومة».
وبكلمة موجزة، إن الديمقراطية لا بد لها من فضاء تسبح فيه، وأوّل معالم هذا الفضاء هو تغيير الولاء والمطالبة بحق الكلمة وإن كان اعترفَ في خاتمة هذا الفصل قائلاً: إن الكلمة تؤخذ ولا تُعطى، وإنها صراع من أجل الآدمية والحرية، وليست تفضّلاً من حاكم على محكوم، أي أنك حين تؤمن بوجوب أخذها يجب أنْ تفرض الديمقراطية فرضاً، طال الزمان أم قَصُر. ويجب أن يُدفع الثمن، صغُر هذا الثمن أم كبر.
الديمقراطية قناعة وليست رغبة
تحت هذا العنوان كتب الجابري يقول:
«أما القول إن الديمقراطية تحتاج إلى «نضج الشعب» حتى لا تنقلب إلى فوضى، وإنه بالتالي يجب تأجيلها إلى أنْ يتحقق «النضج» فهو قول ينسى أو يتناسى بأن نضج الشعب للديمقراطية لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال ممارسة الديمقراطية».
وسبب هذا التبرير، أو هذا التشكيك ـ كما يرى الدكتور الجابري ـ إن بعض أدعياء الديمقراطية لا ينطلقون من إيمان صادق بها، وإنما من رغبات آنية ظرفية لا يمكن أن يُضمن استمرارها بعد زوال حوافزها المباشرة، ويضيف:
«هناك من يطالب بالديمقراطية فقط تحت ضغط الرغبة في التخلّص من حكم القبيلة أو الطائفة أو الحزب الوحيد أو حكم العسكر أو الحكم الفردي المستتر وراء الأحزاب الصورية والانتخابات غير الحرّة ولا النـزيهة. وهناك من يطالب بالديمقراطية؛ لأنه في المعارضة فقط، ولكن دون أن يعني ذلك أنه مستعد لممارستها وهو في الحكم، وهناك من يطالب بالديمقراطية وهو لا يفكّر إلاّ في مظهر أو مظهرين من مظاهرها، كاحترام حقوق الأقليات أو ضمان الحرية الاقتصادية، وهناك من يطالب بالديمقراطية دون أن يخفي تخوّفه من أن تؤدي إلى نجاح تيار يستقطب الآن أغلبية السكان التي هو ليس منها…».
وهذا يعني أن الديمقراطية ما زالت تحتاج إلى تأسيس في الوعي العربي المعاصر، وما زالت في حاجة إلى جعلها تتحول، داخل هذا الوعي، من قضية تحيط بها شكوك إلى قناعة كبيرة لا تتزعزع، كقناعة العقل بالضروريات البديهية…وسبب ذلك كما يرى الجابري:
«لأنه ليس هناك من بديل للديمقراطية إلاّ الاستبداد والدكتاتورية. نعم، ليس هناك خيار ثالث.. هناك فقط إما عيوب الديمقراطية وإما عيوب الاستبداد والدكتاتورية.. وهذه الأخيرة لا تقبل التخفيف ولا تتساهل إلاّ بالتخلي عنها والجنوح إلى الديمقراطية. أمّا ما يقال عن (المستبد العادل) أو (الزعيم الملهم) ـ الكارزمي ـ فهو وإن وُجد، والزمان لا يجود به إلاّ نادراً، فلا شيء يضمن أنّ الذي سيأتي بعده سيكون على شاكلته أو يحافظ على نهجه. والبداهة العقلية تقتضي، إذاً، الاقتناع بأنه ليس من الحكمة المراهنة على الذي قد يأتي وقد لا يأتي، إنّ المراهنة الوحيدة المضمونة النتائج ـ مهما طال الزمن وتشعّب النضال من أجلها ـ هي المراهنة على الديمقراطية، لا غير».
ولتوضيح فكرة: أنّ الديمقراطية تحتاج إلى «نضج الشعب» حتى لا تنقلب إلى فوضى، يؤكّد الجابري أن نضج الشعب لا يتحقق إلاّ من خلال ممارسة الديمقراطية ـ كما قلنا ـ أي تماماً مثلما أن الطفل لا يتعلم المشي إلاّ من خلال ممارسة المشي نفسه. وأن الاستئثار بالسلطة ـ مهما حسنت النوايا، ونادراً ما يكون ذلك ـ لا يمكن أن يؤدي إلى «نضج الشعب» بل بالعكس، أي أن هذا الاستئثار يؤدي دائماً إلى خنق إمكانيات التفتح والنضج في الفرد والجماعة. أضف إلى ذلك أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي ترزح تحت وطأتها الأقطار العربية، لا يمكن التستر عليها ولا قمْع الإحساس بها ومعاناتها بالاستبداد.
وبكلمة مختصرة: إن المشاركة الشعبية في إطار ديمقراطية سليمة هي وحدها القادرة على تجنيد جميع الطاقات والإمكانيات للعمل من أجل التغلّب على المشاكل والصعوبات في جوّ من المسؤولية وتحمّل ما يلزم من الأعباء.
وحتى في حال نشوء صراعات أثناء ممارسة الديمقراطية، يؤكّد الدكتور الجابري أنها صراعات «أُفقية»، أي طبقة ضد طبقة، أو إيديولوجيا ضد أُخرى، أو عقلية ضد عقلية، والنتيجة في مثل هذا الصراع هو ظهور الجديد من جوف القديم والوصول إلى نتائج جديدة، وبالتالي تحقيق تقدّم.
أما في غياب الديمقراطية فإن الأُمور لا تنتهي أو لا تؤول إلى انتفاء الصراع، وإنما تصريفه إلى القوالب العتيقة كالقبيلة والطائفة مما يجعل منه صراعاً «عمودياً»، حيث يقف الفقير والغني في صفٍ ليقاتلا الفقير والغني في الصفّ الآخر، مما يجعل من الصراع فتنة واقتتالاً وتدميراً للذات.
بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.
وعن دعوى الترابط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية وإن الأُولى لا تستقيم إلاّ في ظلّ الثانية، فهي دعوى ـ كما يرى الجابري طبعاً ـ أثبتت التجربة بطلانها. أي إن إلغاء الديمقراطية السياسية باسم الرغبة في تحقيق الديمقراطية الاجتماعية أولاً، لم يسفر إلاّ عن استفحال البيروقراطية واستشراء الاستبداد وتفشّي الجمود الفكري والعقائدي والعجز عن الوفاء حتى بأكثر حاجات العيش إلحاحاً كالمواد الغذائية.
هذا بينما نجحت الديمقراطية السياسية في تحقيق الديمقراطية الاجتماعية حيثما وقع الاختيار على هذه الثانية كما في الدول الإسكندنافية.
وباختصار شديد، إن الوضع الصحيح للمسألة هو أن يقال: إن الديمقراطية السياسية هي إطار تنظيمي للحقوق الديمقراطية والنظام السياسي الذي يحترمها ويخدمها، أما الديمقراطية الاجتماعية فهي اختيار اقتصادي أثبتت التجربة أنه لا يمكن تحقيقه مع غياب الديمقراطية السياسية. النُّخب الواعية والمجتمع المدني والديمقراطية
من الواضح أن المجتمع المدني هو الفضاء الفسيح الذي تسبح أو تطير فيه الديمقراطية أو كما يقول الجابري: هو مجال الممارسة الديمقراطية، الذي تعمل فيه النخب الواعية وتسعى لتحقيق مشاريعها وطموحاتها واكتساب ما يكفي من القوة والخبرة لما يؤهلها لمأْسَسة نشاطاتها وفعاليتها، وبالتالي تكريس الديمقراطية وقيادة مسيرة التحديث.
وإذا كان من الجائز والطبيعي أن يختلف الباحثون حول تعريف «المجتمع المدني»، فإن مما لا خلاف فيه هو أن هذا المجتمع هو «مجتمع المدن»، وإنّ مؤسساته هي تلك التي ينشؤها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، فهي، إذاً، مؤسسات إرادية أو شبه إرادية يقيمها الناس وينخرطون فيها أو يحلّونها أو ينسحبون منها، وذلك على النقيض تماماً من مؤسسات المجتمع البدوي/ القروي/ التي تتميز بكونها مؤسسات «طبيعية»، يولد الفرد منتمياً إليها مندمجاً فيها، لا يستطيع الانسحاب منها مثلها مثل القبيلة والطائفة والمذهب.
ومن هنا ـ كما يرى الجابري أيضاً ـ تأتي خشية الارستقراطية المدنية ـ حسب تعبيره ـ من الديمقراطية؛ لأنها تُفقدها هيمنتها على قنوات التأثير في الأغلبية العددية من السكان وكسب أصواتها، أما «الطبقة المسيّرة» فإنها هي الأُخرى تخشى الديمقراطية؛ لأنها تعلم أن النتيجة الحتمية لكل ممارسة ديمقراطية حقيقية ستكون في غير صالحها، وبالتالي فإنها ستفقد مركزها ومنـزلتها، وهذا يعني انتقال السلطة إلى غيرها.
أما الفئات الأُخرى في المدينة التي تحتج وتعترض على الديمقراطية بعنف أو بصمت، فهي ترى أنّ الديمقراطية ستسحب البساط من تحتها بحكم العددية والأصوات، وهذا يعني فقدانها لموقعيتها «الشرعية والتاريخية». وبالتالي فهي تسعى إلى عدم السماح بممارسة هذه «اللعبة» الخطيرة التي تعصف برمزيتها ومصالحها وتأريخانيتها، لا سيما وأن الناس، عموم الناس، في ظل الطمع والاستبداد اعتادوا على حالة إيديولوجية دينية أو قومية أو رمزية لم تسمح لهم إلاّ بالإصغاء إلى «المستبد العادل» أو «الزعيم البطل» أو «الرمز الملهم» أو «القائد الضرورة» وبذلك تسدّ الطريق أمام أي بديل، مؤسّسةً كان هذا البديل أم حزباً آخر، أم تجمعاً لأحزاب أم ائتلافاً وطنياً أو قومياً أو مذهبياً.
من هنا تأتي الديمقراطية ضرورة تأريخية لمواجهة «شرعية» الاستبداد، أو محاولة شرعنته، وإنّها وحدها القادرة على مأسَسة وقولبة عملية التحوّل الكبرى في المجتمع. أو كما يقول الجابري أيضاً:
«إن التعبير الديمقراطي الحر والاعتراف بالاختلاف والتغاير، إضافة إلى تداول السلطة، هي الشروط الضرورية التي تضمن ـ أو على الأقلّ تساعد ـ على تصريف الحركة والصراع داخل عملية التحول تلك تصريفاً سليماً، وبالتالي تفسح المجال لقيام مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ونقابات ومجالس منتخبة. وهي المؤسسات التي تؤطر الصراع والحركة والتحوّل داخل المجتمع في اتجاه التقدم التأريخي. ونحن ـ والكلام كلّه للدكتور الجابري ـ عندما نؤكد على الديمقراطية كضرورة تأريخية، فلأننا لا نرى بديلاً في ظل عملية التحول الكبرى في المجتمع، سوى الإحباط والفوضى المؤديين إلى الحرب الأهلية. هذه الحرب التي لا تفرز بديلاً على الإطلاق، ولا ينتصر فيها طرف على طرف انتصاراً تأريخياً يقفز بالمجتمع خطوات إلى الأمام بل بالعكس، فالحروب الأهلية تنتهي دوماً إلى نتيجة واحدة وهي هزيمة جميع الأطراف، وبالتالي فليس غير الديمقراطية بديلاً تأريخياً لتحاشي مثل هذه الهزيمة».
وباختصار أيضاً، أن النخب المثقفة الواعية هي وحدها القادرة على تأصيل هذه المفاهيم واستيعابها وتسويقها والترويج لها؛ لأنها وحدها القادرة على تفهّم الصراع والحركة داخل المجتمع، وبالتالي فهي وحدها القادرة على الشعور بالمسؤولية والارتفاع لمستوى أدائها.
الديمقراطية والعقل
جاءت الأديان السماوية وخاصة الدين الإسلامي لتؤكد على العقل وعدم تناقض الطبيعة والعقل، أو أحكام الشريعة والعقل، وهو ما اصطلحت عليه بعض المذاهب الإسلامية الحُسن والقُبح العقليين، أي أن ما يقبّحه العقل يقبّحه الدين والعكس صحيح أيضاً. ولا شك أن منشأ الديمقراطية هو العقل ولا سيما حين وظّف فلاسفة أُوربا مبدأ أو فرضية «التطابق بين الطبيعة ونظام العقل» ليجعلوا العقل المرجعية الأُولى والحَكَم الأول والأخير، وهذا يعني أن العقل هو المرجعية التي تعلو على كل مرجعية أُخرى، وهو ما نقرأه بسهولة في خطاب الدعوة الإسلامية وفي القرآن الكريم تحديداً، وحيث يوظّف العقل مراراً وتكراراً، سلطة وحكماً، مؤنباً أُولئك الذين يخضعون للتقليد، داعياً إياهم إلى تحكيم العقل وحده: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون َ الشعراء:71 ـ 74.
ونعني بمرجعية العقل، العقل الفطري، أو الدين الحنيف أو دين إبراهيم السابق لجميع الأديان ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين آل عمران: 67، وهذا يعني أنّ دين إبراهيم هو الإسلام نفسه، الدين الوحيد الذي يرتضيه الله، وهو أصل كل دين، وسابق على كل خلاف ديني، فهو إذاً دين الفطرة فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.
ولهذا بنى الفلاسفة الأوربيون «مقولة» حقوق الإنسان باعتماد العقل وحده، ولكن ليس ضداً من الدين، بل ضداً على الفهم الذي تفرضه أو فرضته الكنيسة وما يرافقها من طقوس. لقد احتفظوا بالدين وأزاحوا تقاليد الكنيسة وسلطتها وأحلّوا محلها العقل وسلطته. ويتساءل الجابري هنا قائلاً:
«فهل يتناقض هذا الموقف في شيء مع الموقف الإسلامي المؤسَّس على الفطرة والعقل والميثاق والشورى؟» ثم يضيف:
«إن الاعتراض على الكيفية التي حاولنا بها (تأصيل) حقوق الإنسان في الإسلام بدعوى (علمانية) الأساس النظري لتلك الحقوق، اعتراض مردود؛ لأنه يحمل مفهوم (العلمانية) الذي لم يكن موجوداً في عقول فلاسفة أُوربا الذين شيّدوا ذلك الأساس النظري».
وفي هذا السياق يقول ديدرو ـ وهو من أبرز زعماء حركة (التنوير) ـ :
«إذا أقرّ رجل بوجود الله وحقيقة الخير والشر الأخلاقيين، وخلود النفس والثواب والعقاب في العالم الثاني، فأية ضرورة للاحتفاظ بالأفكار التقليدية الكنسية «أي الكنيسة»؟ ولنفترض أن هذا الرجل قد تعلّم جميع الأسرار الكنائسية في القربان المقدس والثالوث واتحاد الأقانيم والقدر والتجسّد وجميع الأُمور الأُخرى، فهل تساعده هذه الاعتقادات على أن يصبح مواطناً أفضل»؟؟
هذا التساؤل الذي أثاره ديدرو، وكرّره الجابري ينطبق على الأساس النظري لمن يؤمن بالإسلام والمرجعية الدينية ولا يرتطم إلاّ ببعض الأحكام الفقهية المعروفة كحكم المرتد وبعض أحكام المرأة بما يخص الميراث والزواج والطلاق والشهادة، وهو ما وضّحه الجابري في فصلين لاحقين في الكتاب تحت عناوين مهمة هي: «حق الحرية شيء، و«حق» الردة شيء آخر» وهكذا بيّن بعض ما يتصوره عموم المسلمين من أحكام، وكيف يقول إنها توصيات ونصائح وإقرار حقائق وليست أحكاماً نهائية، أيّ أنها يُفترض أن يُنظر فيها إلى ظروف الزمان والمكان وعلل الشرائع أو مقاصد الشريعة والأحكام الأولية والثانوية، والثابت والمتغير، وكل ما من شأنه إعادة قراءة الإسلام، ومن ثم إعادة النظر في<