محمد كرم
من عجائب هذا الزمان أن أنجب لنا بشرا ملأوا الدنيا و شغلوا الناس بدون طائل في وقت تعاني فيه مواهب و طاقات و كفاءات حقيقية كثيرة في صمت رهيب و قاتل. الأمثلة عصية على العد، و سأركز في هذا المقام على إسمين بارزين فقط. أحدهما من الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، و قد مارس و لسنوات التأثير الراقي (إذا صح التعبير) في حين أن الآخر ـ و هو منتوج مغربي صرف ـ ما زال يمارس التأثير الواطئ (التعبير هنا صحيح 100 بالمائة) بكل ما ينطوي عليه من انحطاط و سقوط، أما القاسم المشترك بينهما فهو “الخوا الخاوي”. فكلاهما يسبح في بحر طويل و عريض و عميق من التفاهة و إن من زاويتين مختلفتين و بأسلوبين متباينين حد التناقض.
ففي ليلة 19 نونبر 2024 شهدت ساحة التنس العالمية النهاية الرسمية لمسار رفائيل نادال الرياضي مباشرة بعد إقصاء إسبانيا من منافسات كأس ديفيس. شكل هذا الحدث مناسبة ذرفت فيها ملايين الأمتار المكعبة من الدموع و وقف فيها الآلاف داخل الملعب و ربما الملايين خارجه إجلالا و تقديرا و تكريما لهذا الرياضي المتميز الذي من المستبعد أن يجود الزمان بمثله في المستقبل المنظور على الأقل، بل هناك من المتتبعين الإسبان من استساغ هزيمة الفريق الإيبيري بسهولة لكنه لم يكن يتوقع أبدا انسحاب معبود الجماهير الرياضية بكل القارات من ساحة التباري و لو بعد قرن من الممارسة.
و مما لا شك فيه أن بطلنا هذا ليس مؤثرا بالمعنى الشائع، أي أنه ليس صانع محتوى من أي نوع كان. مجموعة كبيرة من اليوتيوبرز هم الذين استغلوا صورته و مساره الحياتي و المهني لجني “اللايكات” و الأموال، أما هو فليس من هواة أو محترفي الإضحاك أو إسداء النصح أو رواية القصص أو تقديم الاختراعات الجديدة أو نشر الإشاعات و الأخبار الكاذبة أو … كما أنه ليس في حاجة إلى التسول الإلكتروني بما أن “البزولة” التي تطعمه كبيرة و مدرارة و بما أن كل شيء يوحي بأن الدنيا هي التي تركض وراءه و ليس العكس. تأثيره في الناس تم بشكل مغاير تماما و هو أقرب إلى نوع التأثير الذي يمارسه مشاهير ناجحون آخرون من قبيل ليونيل ميسي و كرستيانو رونالدو و براد بيت و أنجلينا جولي و إيلون ماسك و بيل غيتس و غيرهم.
لكن، ماذا قدم نادال للإنسانية بلغة الإنجازات الملموسة حتى يستحق كل هذا التعاطف و هذا التشريف و هذا الحب و هذا التبجيل و هذا التوقير و هذا العز و هذا الشموخ ؟ ما هي رسالته في الحياة حتى يكون أتباعه أضعاف أتباع الأنبياء و الرسل في بداية الدعوة لرسالاتهم ؟ هل ساهم في ترتيب اللقاء الوحيد الذي جمع بين دونالد ترامب و كيم جونغ أون ؟ هل أطعم جوعى غزة أو ضمد جراح السودانيين ؟ هل قام بمجهود يذكر لوقف الحرب الروسية ـ الأوكرانية أو الحرب الأهلية السورية ؟ هل نجح في تطوير دواء يعيد البصر ؟ بل هل سبق له أن شارك بيديه في بناء سقف غرفة واحدة أو أصلح بأدواته محرك سيارة أو شاحنة أو تفضل بإعطاء درس واحد في علم نافع أو تطوع للمشاركة في التخلص من مخلفات حريق أو فيضان أو زلزال ؟
لم يرد أبدا ذكر لهذه الإنجازات أو لما يشبهها. الجميع يعلم بأنه أفنى زهرة شبابه أساسا في التنقل بين مطارات العالم الكبرى و فنادقه الفخمة و مطاعمه الراقية و ملاعبه الأنيقة و في تكديس الأموال و مراكمة الميداليات و الكؤوس … و في إرسال الكرات الصفراء و صدها تحت تصفيقات حمقاء و في أجواء رسمية مبالغ في هيبتها و بتغطية إعلامية لم تغفل أي شيء. و طبعا ما كان لرجل كهذا أن يعرف كل هذا القدر من المجد لو عاش في زمن الحروب الصليبية أو في زمن الفتوحات الكولونيالية أو في زمن النهضة الأوروبية مادمنا هنا بصدد الحديث عن أزمنة كان فيها التمييز سهلا بين ما ينفع الناس و ما لا ينفعهم و كان فيها للأنشطة الترفيهية و للاستثمارات المرتبطة بها حدود مرسومة بعناية للحيلولة دون ربط التسلية بالعبث. الأنكى من هذا و ذاك أن التباري على ملاعب التنس غالبا ما يكون اليوم بأسماء الممارسين و ليس بأسماء أوطانهم. فما من شك في أن صاحبنا ظل طوال مشواره الرياضي مهووسا بالمكاسب الشخصية بالدرجة الأولى على العكس مما هو حاصل بمعظم الرياضات الجماعية حيث هناك على الأقل دفاع و لو في الحدود الدنيا عن راية الوطن أو ألوان المدينة أو شعار الفريق.
كرة المضرب رياضة جميلة فعلا، و فائدتها تكمن ـ في تصوري ـ في ممارستها أكثر ما تكمن في التفرج على منافساتها، لكن أن تتحول إلى حرفة قائمة الذات و دجاجة تبيض ذهبا و وسيلة للتأثير على الشباب على نحو خاص من خلال تقديم ممارسيها النجوم بوصفهم نماذج تستحق أن يحتدى بها في الحياة فهذه أمور تستلزم إحداث مختبر أكاديمي متخصص لدراسة الظاهرة و لتقليب الموضوع و الإحاطة بكل جوانبه.
و لعل الأكثر إثارة للسخرية في الظاهرة هو أنه بعد سنوات قليلة أو كثيرة من الآن من المحتمل جدا أن نسمع بأن أحد مضارب نادال قد بيع بسبعة ملايين دولار، و بأن أحد أقمصته قد رسا ثمنه بالمزاد العلني على سبعة ملايين يورو، و بأن أحد سراويله وجد من يقتنيه بسبعة ملايين فرنك سويسري، و بأن آخر كرة رسمية لمسها تحولت إلى ملكية أحد أثرياء بريطانيا أو أستراليا مقابل سبعة ملايين جنيه استرليني، و بأن أحد أحذيته قدم هدية لمتحف نيويوركي حتى يظل شاهدا على سمو التفاهة في هذا الزمن المضحك. إنه عالم مجنون لم يعد فيه أي تمييز بين الغث و السمين.
و تزامنا مع الفترة التي شهدت تقاعد أيقونة التنس العالمية نزل علينا خبر كالصاعقة مفاده أن أبرز المؤثرين المغاربة ـ المدعو “ولد الشينوية” ـ تعرض للاعتقال. لم يصدق الكثيرون الخبر فراحوا يتحرون صحته. أنا شخصيا لم أتحمل عناء التأكد من مصداقية الاعتقال و لم أبذل أي مجهود لمعرفة تفاصيل التهم الموجهة إليه أو طبيعة العقوبة التي تنتظره ، و ما أعرفه عن “عطاءاته” (و “عطاءات” و “إنتاجات” و “خوارق” من يسير على نهجه) وصلني بالصدفة أساسا أو تفضل “المحسنون” بموافاتي به و لم يصلني كنتيجة للبحث و التقصي أو كحصيلة لمتابعتي لحركاته و سكناته (هل هناك عاقل يبحث عن الذباب للاستمتاع بطنينه ؟) . أظن أن ما يستحق التأمل أكثر في سيرة هذا الرجل هي الظروف العامة الجديدة التي أنتجته و أنتجت أمثاله و حولته من كائن منبوذ اجتماعيا إلى نجم أشهر من نار على علم بل و ربما إلى منارة يهتدى بها و رمز وطني يقام له و يقعد و بلسم يداوي الاكتئاب و يقلص من حدة الوحدة و الفراغ عند البعض.
من الواضح أننا نشهد اليوم إفلاسا روحيا خطيرا و انفلاتا قيميا غير مسبوق بمستنقع آسن تتمدد ضفافه و يزداد عدد غرقاه يوما بعد يوم. و للتأكد من هذا المعطى يكفي أن نعود إلى منشور هذا الكائن الذي يبوح فيه بتفاصيل و ملابسات اغتصابه بأحد السجون جراء اعتقال سابق أو إلى الفيديوهات التي تؤرخ للبهرجة التي رافقت عودته من رحلة العمرة… و صدق من قال بأن لكل عصر جاهليته و بأن ما نعيشه اليوم يختزل جاهلية كل العصور في غياب الردع و العقاب.
“ولد الشينوية” لا يجسد فقط عصره، بل يجسد أيضا كل تلك التيارات الفلسفية و الفكرية التي تعتبر الحياة مجرد ملهاة ـ حتى لا نقول دارا للعبث. ربما لهذا السبب متابعوه كثر داخل الوطن و خارجه. و لهذا السبب أيضا من المنتظر أن يحظى بحملة تضامنية واسعة في أزمته الحالية من لدن أتباع و عشاق تعطلت بوصلتهم بشكل نهائي. حتى القانون يكفل له الحق في توكيل محام لمؤازرته على الرغم مما صدر منه من كلام مهين في حق أصحاب البدلة السوداء.
يبدو أن بشر اليوم قد سئموا الجدية أو لم يعودوا يرون فيها أية فائدة، و النتيجة الماثلة أمام الجميع هي أن عدد الباحثين عن الجادين و المحتويات الجادة محدود جدا جدا، و لو ظل مصطفى محمود و أنيس منصور و المهدي بن عبود و المهدي المنجرة في عداد الأحياء لما شكل عدد متابعيهم و لو عشر عدد متابعي الكائنات غير المصنفة التي تدعي التأثير في الناس حتى و إن كانت هي نفسها غير مصدقة لما تحظى به من متابعة و شعبية و لما تكسبه من أموال لأنها تعلم علم اليقين بأنه ليس لديها ما تقدمه غير الفجور الصارخ و السب الجريء و الشتم الانسيابي و الكلام الساقط و الحكايات التافهة و الترويج للرذيلة و الشذوذ في أفق التطبيع معهما، كما تدرك جيدا بأن أيام نجوميتها معدودة ( ترى أين اختفت “سينا” ؟؟؟).
و بالنظر إلى ما هو حاصل أعتقد جازما بإنه من حق المجتمع أن ينتصب طرفا مدنيا في متابعة التافهين و السطحيين الذين يلهثون وراء المال السهل ـ بل و الوسخ أحيانا ـ أو يجرون فقط وراء الشهرة المقرونة ب “الشوهة” و الخزي و العار و ذلك بتهمة التغرير بمتصفحي المنشورات الإلكترونية و تبديد وقتهم و تحريضهم ـ و إن بشكل غير مباشر ـ على إهمال واجباتهم المهنية و المدرسية و الأسرية و حتى الدينية أيضا و على المساهمة عمدا و تلقائيا في تكريس الانحطاط الأخلاقي من خلال نشر الفاحشة مع اعتبار هذه الممارسة مهنة كباقي المهن.
إضافة ترفيهية لها علاقة بما سبق : تساءل أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي عن سبب الزيارة القصيرة و غير الرسمية التي قام بها الرئيس الصيني في الآونة الأخيرة للمملكة، فجاء رد أحد الظرفاء على النحو الآتي :
“راه سمع بللي ولد الشينوية مشدود” !!!!!!!!!