بقلم: فكري سوسان
انتهيتُ مؤخرًا من قراءة كتاب للفيلسوف الكندي ألان دونو بعنوان نظام التفاهة. ترك في نفسي طعمًا مرًّا ومثيرًا للتأمل. مرّ لأنه يعرّي واقعًا نعيشه: واقع تُمنح فيه السلطة والمناصب لا لمن يمتلك الكفاءة أو الجرأة، بل لمن يُجيد التكيّف مع النظام دون أن يُقلق راحته. ومثير لأنه يمنح القارئ أدوات لفهم هذه المنظومة وتفكيكها بعين ناقدة ومسؤولة.
يرى دونو أن ما يسميه “نظام التفاهة” لا يتعلق بأفراد محدودي الكفاءة فحسب، بل هو بنيان اجتماعي وثقافي متكامل يُكافئ الامتثال ويُقصي كل من يحاول الخروج عن النسق أو زعزعته. في هذا السياق، يطرح الكتاب سؤالًا مزعجًا: هل نحن جزء من هذه المنظومة؟ هل ما بلغناه من مناصب ومواقع هو ثمرة جهد واستحقاق، أم نتيجة قدرتنا على التماهي مع السائد؟
في المغرب، حيث تلعب العلاقات الشخصية والانتماءات دورًا حاسمًا في توزيع الفرص، يبدو الكتاب أشبه بمرآة. هل نُكرّم فعلًا الجدارة والكفاءة؟ أم نميل إلى تمجيد من يتقن فن البقاء والمسايرة؟ من هم فعليًا رموز النجاح لدينا؟ هل هم أصحاب الإنجاز الحقيقي أم من عرفوا كيف يتفادون المواجهة ويُحسنون التموضع؟
جزء كبير من هذا الواقع يتم إنتاجه داخل المدرسة. حين يُطلب من الطالب أن يحفظ دون أن يفكر، وأن يكرر دون أن يناقش، فإننا نغرس فيه منذ الصغر أن الطاعة مقدمة على الإبداع، وأن السلامة أفضل من الجرأة. نخرّج بذلك أجيالًا تُجيد اجتياز الامتحانات لكنها لا تعرف كيف تسأل أو تحلل أو تحاسب. منظومة تعليم لا تُنمّي النقد، تُنتج مواطنين قابلين للتكيّف مع أي واقع، حتى وإن كان مُفرغًا من المعنى.
الإعلام بدوره يتحمل مسؤولية لا تقل خطورة. حين يُسهم في تطبيع هذا النموذج عبر تسويق صور سطحية، وإنجازات وهمية، وأصوات لا تفعل سوى تكرار ما يُقال، فإنه يفقد دوره الرقابي ويتحوّل إلى أداة ترويج لا مساءلة. نحن بحاجة إلى إعلام يُسلّط الضوء على الكفاءة، ويطرح الأسئلة، لا إلى منابر تُملي أجوبة جاهزة وتُكرّس الركود.
نظام التفاهة ليس مجرد تشخيص لحالة، بل دعوة ملحّة إلى المراجعة والتغيير. إنه نداء لإعادة بناء ثقافة تُثمّن الفكرة الصادقة، والموقف المبدئي، والعمل المتقن. الأمر ليس سهلًا، لكنه يبدأ بخطوة واحدة: أن يرفض كلٌّ منا أن يكون ترسًا آخر في آلة الابتذال.
هذا النص ليس لتوزيع الاتهامات، بل لطرح سؤال جوهري: هل نملك الشجاعة لنواجه السطحية في ذواتنا؟ هل نحن مستعدون لتجريب نموذج جديد في بيوتنا، في مدارسنا، في مؤسساتنا، في تفاصيل يومنا العادي؟
قال بومارشيه ساخرًا: “الرديء الذي يعرف كيف يزحف… يصل إلى كل مكان”.
لكن السؤال الحقيقي هو: هل نريد الوصول بهذه الطريقة؟ أم آن الأوان لنطرح تحديات جديدة على أنفسنا وعلى مجتمعنا؟