أثارت فتوى المجلس العلمي الأعلى في موضوع الزكاة الكثير من النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي، ما جعل إعادة قراءتها والدعوة من جديد إلى النظر في محتواها أمر لابد منه، إن توضيحا من المؤسسة المصدرة للفتوى، أو تحليلا ونقاشا من المتخصصين والمهتمين بفقه المال عموما، لاسيما أنها تزامنت مع سياق وظرف سياسي خاص؛ حيث أن شعار الدولة الاجتماعية الذي رفع لم يتحقق على أرض الواقع، بل لربما فَشَل هذا الورش كان من إحدى الأسباب التي أعادت الاهتمام بالركن الثالث في الإسلام وهو “الزكاة”، حتى يتم تغطية النقص الحاصل، وهكذا.
قبل التفاعل مع السؤال الذي عنونا به المقالة، لابد من التذكير أن مفهوم الفتوى بشكل عام، إنما هي الكشف عن الحكم الشرعي في نازلة معينة، أو حدث مستجد لم يسبق أن عرف من قبل؛ لذلك، فإنالفتوى بمثابة التوقيع عن رب العالمين وبيان لحكمه سبحانه وتعالى، وأن مسألة الإفتاء في غاية الأهمية لاتصالها بما ذكر؛ وعليه، بالعودة لمضمون فتوى الزكاة الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى، نجد أن الغالب عليها هو تبيان مجموعة من الأحكام الفقهية التي قتلت بحثا قديما وحديثا، مع الاتيان ببعض المستجدات في طريقة تكييف الواقع بخصوص ما يتعلق بقطاع الخدمات ومسألة الأجور، الأمر الذي يبدو أنه وراء كل هذا النقاش العمومي على المواقع الإلكترونية وفي المجالس الخاصة.
وفي نفس السياق، لا بأس من التشديد على أن أمر الفتوى باعتبارها التوقيع عن رب العالمين والقول على الله تفسيرا وتأويلا، لهي من القضايا التي يتهرب منها العلماء قديما وحديثا خوفا من القول على الله بغير علم،قال تعالى: “قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ“، وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “أجرؤكم على الفتوى أجرأكم على النار“؛ لذلك نرى أن العلماء شددوا كثيرا في شروط الفتوى، فنجد منها ما يخص الجانب العلمي والعملي لمتصدر الفتوى؛ إلا أن أهم شرط قد يثار حوله النقاش، في وقتنا الراهن، إن سلمنا بتوفر كل الشروط الأخرى،هو ما مدى استيعاب الفقيه لكل ما يحيط به لتشابك الأمور حتى يصدر فتوى في النازلة المعروضة عليه، وبمعنى آخر: ما درجة تطبيق القاعدة الذهبية المعروفة “الحكم عن الشيء فرع عن تصوره”؟
وعليه، في إطار طرح تساؤلات حول فتوى الزكاة والتفاعل مع الاستغراب الذي عبر عنه أكثر من مواطن مغربي، في مختلف ربوع الوطن، بخصوص طريقة زكاة أجور عمال القطاع العام والخاص، لا بأس من الدعوة إلى التأمل في النصوص الشرعية المؤطرة لركن الزكاة، حتى ندرك الفلسفة العامةلها؛ ومن بين النصوص التي تفصح عن أهم ما يؤطر أداء الزكاة عند التأمل فيها هو جزء من قول رسول اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: “أخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ علَى فُقَرَائِهِمْ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ”؛ بمعنى أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء؛ أي أن أهم سؤال يجب الإجابة عليه من قبل الفقيه عموما، هو: من هو الغني والفقير في عصرنا اليوم؟ وبصيغة أخرى: ما الشروط التي يجب التوفر عليها في الإنسان حتى يقال عنه أنه من صنف الأغنياء؟ وبالتبع، ما المحدد للقول على المرء أنه فقير أو مسكين؟
وبالتالي، فاعتبار الشخص الذي يتعدى أجره 3266 درهما بالمغرب قد يجعل في خانة المعنيين بأداء الزكاة، حسب نص فتوى الزكاة،طرح أكثر من علامات الاستفهام؛ وللتذكير لمن لا يعلم، فإن هذا الأجر يمثل ما يصطلح عليه “سميك”، أي الأجر الأدنى الرسمي بالمغرب؛ وفي ضوء الحديث الشريف السالف الذكر، فإن من يتقاضى أكثر من هذا الأجر بقليل، أي 3885 درهم، يتم تصنيفه في خانة الأغنياء الذي يعيش في حياته اليومية فائضا عن الحاجات الأصلية الضرورية كالملبس والمأكل والمشرب والمسكن والدواء وغيرها؛ بمعنى، أنه يتوجب عليه دينيا أداء الزكاة.
وبدون الغوص في مختلف الإشكالات التي يطرحها هذا التقدير الذي اعتمده المجلس العلمي الأعلى بخصوص تحديد معيار النفقات في المغرب اعتمادا منه على الأجر الأدنى الرسمي بالمغرب، نود أن نثير مسألة ارتباطا بما مدى استيعاب الفقيه لمحيطه، ونقول: ما المعايير التي تبناها المجلس العلمي الأعلى في اعتبار الأجر الأدنى الرسمي أجرا يوافق ما تقتضيه النصوص الشرعية، علما أن تحديد هذا الأجر من قبل المؤسسات الرسمية يخضع لتقديرات سياسية أكثر مما يخضع لما ينبغي أن يكون عليه الأمر؛ بمعنى آخر: حتى إن تبين للقائمين على تنظيم الشأن السياسي المغربي أن هذا الأجر غير كاف ولا يتوافق مع ارتفاع الأسعار والتضخم الحاصل في العقدين الأخيرين، فاعتبارا لحسابات منهم، قد تكون عادلة وقد تكون ظالمة، يفرضون ما قد لا يقبله المواطن ولا يستجيب لمتغيرات عدة؛ وعليه نتساءل أيضا: هل من واجب الفقيه أن يساير تقديرات السياسيين دون النظر في الواقع من وجهة شرعية بعيدا عن تأثيرات السياسة والسياسيين؟
وعليه، إن كان ظاهر إصدار فتوى بخصوص زكاة الأجور عملا يؤجر عليه المجتهد، سواء أصاب أم أخطأ؛ إلا أن مضمونها قد يستغل سياسيا من قبل الحكومة والنافذين في عالم المال والاقتصاد، حيث سيعتبرونها فتوى شرعية لتبرير السياسة المعتمدة في تحديد الأجور، ما يعني اصطفاف الفقيه في صف السياسيين وأصحاب الشركات في غفلة منه؛ والحال أن الفقيه ينبغي عليه تحديد معاييره الخاصة، وفق ضوابط شرعية مسايرة للواقع المعيش، لتحديد مفهوم الغني والفقير الذي تدور حوله أحكام الزكاة، لأن هذا الإجراء من صميم عملية صنع الفتوى، خاصة أن مكانة الفتوى عند المسلم تحظى بمكانة لا يمكن للقرار السياسي أن يضاهيها، ذلك أن الاعتراض على القرار السياسي قد يصلح معه المراوغة واستعمال الحيل؛ بينما الفتوى في عمقها تخاطب القلب قبل شيء آخر، أي أن لوم النفس وتأنيب الضمير لن يفارق المسلم، في حالة تنفيذ ذلك، أو حتى إن استطاع التحايل على مقتضيات الفتوى، لاعتبار ذلك مخالفة لأحكام الله التي كشف عنها الفقيه في فتواه.
وعلى سبيل الختم، رغم أن نقاش هذا الموضوع لا يكفيه بعض الفقرات، إلا أن الغاية منه هو إثارة واستفزاز عقل الفقيه وغيره، حتى ينتبه لكل ما قد يؤثر في توجيه اجتهاده؛ لذلك كانت بعض التساؤلات إشارة منا إلى كشف صعوبة إصدار الفتوى في عصر تداخلت فيه الأمور إلى حد كبير، مما عقد تصور الواقع وتشخيص كل إكراهاته اعتمادا على زاوية نظر وحيدة فقط، فكيف إن كانت هذه الزاوية تمثل الجهات الرسمية التي باتت محط انتقاد الكثير، خاصة أن بعض الأرقام والمؤشرات المعتمدة منهالا يتفق عليها اثنان (بالمناسبة، فقد اختلفت المؤسسات الرسمية أكثر من مرة بخصوص بعض الاحصائيات، لاسيما ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي، من نسب الفقر والبطالة، وغيرها).
لذلك، بقدر ما أصبح الفقيه، أو المؤسسات المعنية بالإفتاء،معنيا بالتجاوب مع ما يعرض عليه من نوازل ومستجدات بإصدار الفتاوى، فإنه ملزم دينيا بتحقيق الإحاطة الشاملة بكل ما يحيط بالنازلة، فضلا عن أخذ تصور مكتمل عن النازلة نفسها، حتى يحقق إحدى الشروط الأساسية التي يقتضيها الإفتاء وهو أن يكون ابن وقته وزمانه فعلا وليس قولا، حتى لا يشبه ذلك المفتي من برج عال لا يربطه بالواقع صلة إلا ما يراه من الأرقام والمؤشرات الرسمية التي تحوم حولها الكثير من الشبهات،إن سمح لنا الوعاظ باقتباس شيء من قاموسهم اللغوي.
وكما يقال: الشيطان يكمن في التفاصيل؛ فهل يا ترى سيتراجع المجلس العلمي الأعلى عن مضمون فتواه في طريقة احتساب زكاة الأجور اعتمادا على الأجر الأدنى الرسمي، إن دقق أكثر في التفاصيل؛ أو بصيغة أخرى: هل يستطيع أعضاء المجلس العلمي الأعلى استيعاب مختلف الإكراهات التي يتعايش معها الأجراء في مختلف مدن وقرى الوطن؟ بل، هل يستطيعوا من تحديد الأجر الأدنى الذي يُمكّن من توفير الضروريات والحاجيات في مختلف المناطق بعيدا عما تأخذ به المؤسسات الرسمية؟
وختاما أقول: بدل السؤال عمن تجب الزكاة، لا بأس من قلب المعادلة، باستعمال ما خلصت إليه الفتوى من أرقام، ومطالبة المجلس العلمي الأعلى من إصدار فتوى بخصوص شخص يتقاضى 4000 درهما كأجر شهري، هل يجوز له أخذ الزكاة من الأغنياء لعدم كفاية أجره تغطية الضروريات التي تتمثل في السكن والمأكل والمشرب والملبس، خاصة أنه متزوج وله طفلان وملزم بالنفقة أيضا على والديه لأنهما بلغ من الكبر ما لا يسمح لهما بكسب قوت يومها؟ والحال أن ظاهر نص الفتوى يقتضي من هذا الشخص إخراج الزكاة لأن خصم مصروفه من دخله السنوي، حسب ما اعتمدته الفتوى، يبقي له فائضا قدره 8808 درهما، أي ما يفوق النصاب المحدد ب 7438 درهما؟
اللهم وفق علمائنا إلى ما فيه الخير والصلاح؛
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.
حسن المرابطي
 
	    	 
		    





























