مغاربة كثر استبشروا خيرا بمخرجات المجلس الوزاري الذي انعقد يوم الأحد 19 أكتوبر 2025 بالرباط تحت رئاسة جلالة الملك محمد السادس، ولاسيما فيما يتعلق بقرار الرفع من ميزانية التعليم في مشروع القانون المالي برسم سنة 2026، الذي يعد الأخير في عهد التحالف الحكومي الثلاثي بقيادة عزيز أخنوش رئيس حزب “التجمع الوطني للأحرار”، وهي الخطوة التي تظهر إلى أي حد هناك رغبة ملكية أكيدة في جعل قطاع التعليم إلى جانب قطاع الصحة أولوية وطنية، واستثمارا استراتيجيا في العنصر البشري، باعتباره أساس تحقيق التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية.
وهو القرار الذي خلف ارتياحا كبيرا ليس فقط في أوساط عديد الأسر المغربية والشغيلة التعليمية، بل حتى في صفوف شباب “جيل Z” الذين نقلوا احتجاجاتهم منذ 27 شتنبر 2025من الفضاء الرقمي إلى الشارع، للمطالبة بضرورة تحسين الخدمات الاجتماعية في قطاعي الصحة والتعليم ومحاربة الفساد، وتوفير الكرامة والعدالة الاجتماعية ومناصب الشغل لجحافل العاطلين.
بيد أن السؤال الأبرز الذي أصبح يتردد على ألسن الكثير من المهتمين بالشأن التربوي على وجه الخصوص، هو هل يكفي الزيادة في حجم ميزانية قطاع التعليم لإصلاح المنظومة التعليمية ببلادنا، وهي التي ظلت منذ فجر الاستقلال تستنزف ميزانيات ضخمة من المال العام في عمليات الإصلاح وإعادة الإصلاح، دون جدوى؟ إنه من سابع المستحيلات الاعتقاد بأن رفع ميزانية القطاع وحده كفيلبوضع قطار التعليم على سكته الصحيحة وضمان انطلاقة حقيقية في الاتجاه الصحيح، ما لم تتغير العقليات وتتوفر إرادة سياسية قوية، مع ما يواكب ذلك من حكامة جيدة في التدبير، حتى لا تتكرر التجارب السابقة وخاصة تلك المرتبطة بالمخطط الاستعجالي، الذي أدى إلى ضياع ملايير الدراهم دون أن يترك أي أثر ملموس على مستوى الجودة والمردودية، في ظل غياب المقتضى الدستوري “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
فالعديد من العاملين في القطاع يرون أنه لا ينبغي أن يكون رفع ميزانية التعليم هدفا في حد ذاته، بقدر ما يريدون أن يكون أداة ناجعة لإعادة الثقة في المدرسة العمومية والحد من الهجرة الجماعية إلى التعليم الخصوصي. ويمنون النفس بأن يعكس القرار إرادة سياسية حقيقية للإصلاح، اعتمادا على مقاربة جديدة تحت عنوان “الإنفاق الفعال”، تقوم على إجراءات نوعية تشمل تعزيز البنى التحتية التعليمية، توسيع نطاق التعليم الأولي، تحسين أوضاع الموارد البشرية وتوجيه عناية خاصة بالمناطق الجبلية والهامشية من أجل خلق مدرسة عادلة، وهو ما يمكن أن يشكل مدخلا أساسيا للعدالة المجالية وتجويد المنظومة التربوية…
وإذا كان هناك من المهتمين بالشأن التربويمن يشددون على ترجمة قرار “رفع ميزانية التعليم” برسم سنة 2026 إلى آثار إيجابية مباشرة على جودة المدرسة العمومية، من حيث جودة التعلمات، الحد من الاكتظاظ وضمان تكوين مستمر للأساتذة، لاسيما أن الأطر التعليمية سئمت من تلك الإصلاحات الترقيعية غير المجدية، وتنتظر إصلاحا جادا وحقيقيا يطال بيئة العمل، ويعيد للمدرسة العمومية إشعاعها كمؤسسة للتكوين والتنوير وحاضنة تربوية تراعي حتى الأبعاد النفسية للمتعلمين، وليست مجرد مرفق عمومي لتدبير الأعداد.فضلا عن الحرص على تحسين البنية التحتية وتوفير الوسائل الديداكتيكية، وتمكين المدرسين من ظروف اشتغال جيدة تساهم في تيسير القيام بواجبهم المهني والارتقاء بمردوديتهم، إلى جانب حفظ كرامتهم وكرامة المتعلمين، في المدن كما في القرى والمناطق النائية.
فهناك آخرون يرون أنه لا يجب التركيز فقط على حجم الميزانية في مشروع قانون المالية لعام 2026، التي سترتفع مع ميزانية الصحة إلى 140 مليار درهم، أي بزيادة تقارب 22 مليار درهم مقارنة مع السنة المنصرمة، وإنما يتعين على القائمين على الشأن التربوي استحضار الحكامة الجيدة وتقييم فعالية الإنفاق، إذ ليس المهم هو رفع ميزانية التعليم وميزانية الصحة من أجل امتصاص غضب الشارع بدعوى الاستجابة لمطالب حركة “جيل Z”، بل إن الأهم من ذلك هو السياسة المتبعة والتوجهات الكبرى. إذ أنه حتى لو افترضنا رفع ميزانية بنسبة 100 في المائة، فإنه لن يجدي نفعا ما لم تحترم الأولويات عند التنفيذ وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة، لأن المشكل الحقيقي الذي يحول دون تحقيق الإصلاح المأمول يكمن في تفشي الفساد وانعدام الإرادة الحقيقية عند المسؤولين لمكافحته…
فلا أحد اليوم يجهل ما آل إليه وضع المدرسة العمومية من ترد صارخ، جراء ما راكمته من أعطاب عبر سنوات طويلة، مما يستدعي ليس فقط الزيادة في الميزانية، بل أن يرافقها إصلاح بنيوي شامل يستهدف مكامن الخلل، ورؤية وطنية واضحة تضع التعليم في قلب المشروع التنموي الجديد، حتى يكون لذلك ما يتطلع إليه المغاربة من نهضة حقيقية، ويعيد الاعتبار للتعليم كرافعة أساسية للعدالة الاجتماعية وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص.
إننا إذ نتمنى صادقين بأن يساهم الرفع من ميزانية التعليم في النهوض بالقطاع وتحقيق الأهداف المرجوة التي ما انفك يرسمها له قائد البلاد الملك محمد السادس، فإننا نأمل ألا يخفي هذا القرار حجم الاختلالات القائمة والفساد البنيوي، باعتباره فرصة تاريخية لإعادة بناء الثقة في المدرسة العمومية، وتحويل الاستثمار المالي إلى استثمار في الإنسان والمستقبل، لاسيما إذا كانت بلادنا تسعى فعلا إلى التأسيس للدولة الاجتماعية التي تعد أكبر من مجرد أرقام وميزانيات مناسباتية.
اسماعيل الحلوتي
 
	    	 
		    





























