خالد البوهالي
يذهب بعض المحللين في تحليلهم أسباب النزاع بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، إلى كون الغرب بزعامة أميركا يحاول احتواء روسيا عبر ضم أوكرانيا إلى حلف الشمال الأطلسي، ما يمكنه من الاقتراب من روسيا بهدف تطويقها، ما يختزل جوهر الصّراع في إطاريه العسكري والسياسي فقط.
وإذا كانت هذه التحليلات تبدو صحيحةً إلى حدٍّ بعيدٍ، في ظل الأحداث الحالية وتلك التي سبقت هذه الحرب، والرغبة الأطلسية الجامحة في استكمال مخطط تطويق روسيا جيوسياسياً من كل الجهات، فهي في حقيقتها تتخذ أبعاداً أخرى إيديولوجية وسياسية أيضاً. كيف ذلك؟
إذا ما تأمّلنا في كتابات بعض المفكرين الأميركيين والروس، نجد أن هذه الحرب، في جوهرها، تدور في إطار صراعٍ بين حضارتين أطلسية وأخرى أوراسية /أرضية؛ الأولى تريد فرض قيمها الغربية الأحادية الجانب، عبر نشر القيم الليبرالية في تلك البقعة من العالم، وما يعني ذلك من اقتصاد السوق والعولمة وإرساء منظومةٍ من القيم الأخلاقية الدخيلة التي تجعل الدين والتقاليد أمراً هامشياً، إن لم يكونا منعدمين، من خلال جعل الفرد يسمو فوق الجماعة، وفرض قوانين وتشريعات، ولو تعارضت مع القيم الأخلاقية والدينية للشعوب باسم “السنن الكونية”، ما يفقد الشعوب هويتها وانصهارها في قالب ليبرالي، في حين ترفض الأخرى هذه المشاريع الليبرالية كلها، وتعارضها بشدة، لتنافيها مع طبائع الشعوب وخصوصياتها، وتشدد على ضرورة وجود عولمةٍ متعددةِ الأقطابِ تتطابق وهوية الشعوب.
بعد أفول الشيوعية واندثارها، اعتبرت الليبرالية أن صراع الأيديولوجيات انتهى إلى الأبد، بانتصارها على الفكر الماركسي اللينيني، وهو ما تجسد في كتابات المفكر الأميركي فرانسيس وكوياما في كتابه “نهاية التاريخ” الذي جعل من الديمقراطية الليبرالية أسمى ما وصل إليه التطور التاريخي والثقافي للبشرية، ورأى أنه قمة الحكومة العالمية، وبالتالي ستسود إلى الأبد.
وعلى أساس ذلك، سعت الدول الغربية في فرض قيمها الليبرالية على أغلب الدول، وخصوصاً دول العالم الثالث، باستثناء البعض، سواء بالترغيب أو الترهيب، باستعمال كل الوسائل، لإرغامها على تبني هذا النهج الغربي، إذ أصبحت المساعدات الاقتصادية رهينة بما تقدم عليه من إصلاحات في هذا الاتجاه.
ولا يمكن إنكار أن الليبرالية نجحت في ذلك إلى حد بعيد، باعتبارها الطرف المهيمن على الساحة الدولية، في ظل نظام الأحادية القطبية الذي كان مسيطراً خلال القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة.
تنطلق الأوراسية من مسلمةٍ مفادها أن الحضارة الأوراسية ليست غربية ولا آسيوية، إنما تنضوي تحت مفهوم الأوراسية كفكرة جيوسياسية ذات أبعاد سياسية بخصوصيات ثقافية ودينية واجتماعية تختلف كلياً عن أدبيات الحضارة الأطلسية، ومن أبرز روادها إيفان إيلين، ونيكولاي الكسييف، وجورج ف فرينادسكي، وجورج فلوروفسكي، ويوتر ن سافيتسكي، ونيكولاي س تروبتسكوي، وليف غوميليف (ابن الشاعرين نيكولاي غوميليف وآنا اخماتوفا غورينكو)، وألكسندر دوغين.
تطرح الأوراسية نفسها كنظريةٍ وفلسفةٍ مناهضةٍ لليبرالية، بعد فشل الشيوعية والفاشية في ذلك. ولهذا، أطلقت على نفسها “الفلسفة الرابعة”، كما يقول المفكرون الأوراسيون، وفي طليعتهم المفكر ألكسندر دوغين، الذين يرفضون بالتالي الأطروحة الليبرالية الأحادية التي تُفَصِّلُ معايير الخير والشر وفق مقاسها، بما ينسجم ومصالحها، مع ما يتضمن ذلك من فرض الهيمنة وإخضاع الشعوب الأخرى بالقوة، مثلما يرون في القيم الليبرالية خطراً يتهدد صَرْحَ الحضارة الأوراسية بكل حمولتها السياسية والثقافية والدينية والمجتمعية.
بمعنى آخر، إن الأوراسية بمفهومها الواسع تناضل ضد كل أشكال الاستبداد الأيديولوجي الأحادي الذي يطرحه الفكر الليبرالي منذ نهاية الحقبة السوفياتية، من خلال رؤية مختلفة للعالم. لذا، تسعى، وفق مُنَظِّريها، إلى إقامة عالم متعدد الأقطاب بهويات تتناسب وخصائص المجتمعات الإنسانية، وخالٍ من النزعة الليبرالية الأحادية التي تسعى لفرض أجنداتها على الدول الأخرى.
في مقابل ذلك، ظلت أوراسيا حاضرةً في فكر الاستراتيجيين الغربيين، نظراً إلى أهميتها، وفي مقدمتهم السير هارولد ماكيندر، الذي يعتبر أن من يسيطر على شرق أوروبا يسيطر على قلب العالم، ومن يسيطر على قلب الأرض يسيطر على جزيرة العالم، ومن يسيطر على جزيرة العالم يسيطر على العالم.
ويسايره في ذلك الخبير الاستراتيجي الراحل زبيغينيو بريجنسكي بخصوص أوراسيا، من خلال كتابه الشهير “رقعة الشطرنج الكبرى”، إذ يعتبرها الجائزة الكبرى لمن يظفر بها. وبحسب قوله، تحتل أوكرانيا موقعاً مهماً في رقعة الشطرنج الأوراسية، ويعد وجودها كدولة مستقلة عاملاً مساعداً على تغيير مواقف روسيا، فمن دون أوكرانيا لا تشكل روسيا إمبراطورية أوراسية. وإذا سيطرت الأخيرة عليها بكل ما تملك من إمكانيات بشرية وموارد ستصبح إمبراطورية. لهذا، يوصي بريجنسكي الساسة الأميركيين بمنع روسيا من الاستحواذ عليها. وبالنسبة إليه، “الأفضل هو روسيا غير الموجودة والمحطمة التي يستغلها جيرانها”، على حد قوله.
ويختم بقوله إن الأوراسية هي التحدي الأكبر من الناحية السياسية والاقتصادية للسيادة الأميركية الليبرالية على العالم، لأن قوة أوراسيا أقوى بكثير من القوة الأميركية.
هذا الأمر يدل على أن الصراع الدائر حالياً حول أوكرانيا ليس صراعاً حول رقعة جغرافية بين قوتين عظميين لدوافع أمنية واستراتيجية فحسب، بل يتعداه إلى صراع بين حضارتين ذات قيم متنافرة، وهو ما أشار إليه بريجنسكي في ختام كلامه أعلاه. ويبدو أنّ المخطط الأميركي كان معداً سلفاً، إذ يسعى من خلاله إلى بسط هيمنته ونشر أفكاره في المنطقة لقطع الطريق أمام أي توجه وحدوي للشعوب الأوراسية التي ترى في الاتحاد الأوراسي طريقاً نحو الوحدة بين دوله.
لهذا، ترى موسكو أن السماح بوجود قواعد عسكرية لحلف الشمال الأطلسي على التراب الأوكراني، ليس هدفه تطويقها جيوسياسياً وعسكرياً فَحَسْب، بل سيشكل نقطة انطلاق الدعايات الليبرالية أيضاً، من خلال الوسائل الدعائية المختلفة والاستخبارية التي تملكها الدوائر الغربية، بهدف التأثير في المجتمع الروسي كمجتمع أرثوذكسي محافظ، وجعله يتحول مرة أخرى إلى الليبرالية التي سادت لسنوات في عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسين.
ختاماً، نصل إلى استنتاج مفاده أنّ الصراع الحالي هو نتاجُ استراتيجياتٍ أعدت مُسْبَقاً منذ مدةٍ طويلةٍ في دوائر اتخاذ القرار الأميركي لتفتيت روسيا، كمقدمة لاختراق المنطقة الأوراسية، وأن موسكو تشكل خط الدفاع الأول عن القيم الحضارية للمنطقة الأوراسية في مواجهة الحضارة الأطلسية الممثلة بالغرب، فهل تنجح موسكو في مسعاها؟ هذا ما سنكتشفه في الأيام القادمة.