بعد أن ظلت لسنوات طوال تكرس حياتها في خدمة النساء ضحايا القهر والظلم والبؤس، وتعلمهن قواعد المقاومة والصمود في وجه الشدائد والمحن. وبعد أن كانت من الرائدات في تكسير حاجز الرعب وجدار الصمت الإسمنتي عن الأمهات العازبات، وحرصت على إعادة إدماجهن في المجتمع، أبت أيقونة العمل الجمعوي الهادف والنضال النسائي الشريف والمتواصل عائشة الشنا أو “الأم تيريزا” كما يحلو للبعض أن يلقبها، إلا أن تستسلم مكرهة لجبروت الموت وتسلم الروح إلى بارئها بعد صراع مرير مع المرض يوم أمس الأحد 25 شتنبر 2022 عن سن تناهز الواحدة والثمانين، تاركة خلفها آلاف القلوب الخاشعة والعيون الدامعة…
فارقتنا إذن تلك الأم الرؤوم التي كانت تقدر هموم المرأة ومشاكلها، وعلى إثر ذلك أسست في عام 1985 جمعية “التضامن النسائي”، الناشطة الاجتماعية وأشهر مدافعة شرسة عن حقوق النساء المظلومات والأطفال المتخلى عنهم، إذ كيف لا تشعر بمعاناة الأخريات وهي التي ذاقت منذ سن الثالثة من عمرها طعم الحرمان من حنان الأبوة، وكذا فراق الأخت الصغرى بعد مرور ستة شهور فقط على رحيل الوالد؟ وعائشة التي عركت الحياة وظروف العيش الصعبة، عرفت معنى الفقر والحاجة عندما اضطرت إلى الخروج للعمل مبكرا وهي في السادسة عشرة من العمر ما تزال للتكفل بإعالة أمها وحيدتها. حيث قادتها الظروف في بداية الأمر إلى الاشتغال بالجمعية المغربية لمحاربة داء السل وداء الجذام، براتب شهري لا يتعدى ثلاثمائة خمسين درهما، وفق ما كانت صرحت به قيد حياتها لإحدى الإذاعات الوطنية.
وقد واصلت كفاحها في العمل الجمعوي حين اختارت الاشتغال كمتطوعة بالعصبة المغربية لحماية الطفولة والتربية الصحية، ومن ثمة ارتأت الفقيدة أن تنضم فيما بعد إلى الجمعية المغربية للتخطيط العائلي. وبموازاة مع ذلك استطاعت بالكد والاجتهاد والعمل الدؤوب أن تحصل على دبلوم الدولة من مدرسة الممرضات، وتلتحق بالعمل في إطار التنشيط الصحي والاجتماعي بالمصلحة الإقليمية الصحية بمدينة الدار البيضاء، وانتقلت للعمل بالإذاعة والتلفزة المغربية، حيث قامت ابتداء من عام 1963 بتنشيط برامج تربوية في إذاعة الدار البيضاء، وفي سنة 1972 قدمت برنامجا تلفزيونيا يعنى بالتربية الصحية.
فالفقيدة “الأم تيريزا المغرب” على الرغم مما تكبدت من مشاق وتعرضت إليه من هجومات عنيفة، وخاصة من قبل الفكر الظلامي والمحافظ، حرصت على شق طريقها بإصرار الكبيرات والكبار وعزم الخيرات والأخيار من المؤمنات والمؤمنين بالقضايا الإنسانية النبيلة. لذلك، لا غرو في أن يخلف رحيلها جرحا عميقا ويخيم الحزن على رفاقها ورفيقاتها في النضال وعلى كافة المغاربة الأحرار، باعتبارها رمزا من الرموز النادرة في حقل النضال الحقوقي. إذ سارعت الكثير من فعاليات المجتمع والمنظمات الحقوقية إلى التعبير عن مرارة الألم الذي يعتصر القلوب بهذا الفقد الرهيب والمصاب الجلل، والاعتراف بما أسدته من خدمات جليلة للمجتمع عامة والمرأة بشكل خاص، وقدمته من تضحيات جسيمة من أجل انتزاع حقوق المهمشات والأمهات العازبات، موفرة لهن من الإمكانات المادية ما هو كفيل بصون كرامتهن ويساعدهن في الحصول على قوتهن اليومي، بعيدا عن الاستغلال الجنسي وغيره. كما أنها استطاعت بفضل معركتها الحقوقية إيصال صوت الأم العازبة والانتصار لمن لا هوية لهم بتحريك ملف الحالة المدنية.
إن الراحلة عائشة الشنا كانت رغم ما يبدو عليها من هدوء ذات جرأة قوية في مواجهة التهديدات، مناضلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى لما ظلت تتميز به من مواقف رفيعة وتتحلى به من قيم الصدق والتضامن ونكران الذات، وإلا ما كانت لتخرج في تلك الظروف العصيبة من السبعينات لتعلن بكل صراحة عن وقوفها إلى جانب بالأمهات العازبات والتكفل بهن وحسن رعايتهن. إذ اشتغلت في الوقت الذي كان الميدان شبه فارغ، لانعدام وجود جمعيات أو مؤسسات لدعم النساء وخاصة فئة الأمهات العازبات، مما جعلها لوحدها تشكل مدرسة نضالية ذات أسس متينة.
ثم إن ما كان رحمها الله يغيظها ويوجعها كثيرا، هو أنه لم يكن يمر عليها يوم دون أن تصادف في طريقها فتاة في وضعية حمل غير مرغوب فيهوتريد التخلي عنه، وكانت تنبه في كثير من المناسبات إلى أن ظاهرة الأمهات العازبات تتفاقم بشكل لافت ومتواصل، ليس فقط ضمن الفتيات المنحدرات من أوساط فقيرة في البوادي والأحياء الهامشية، بل كذل في صفوف الجامعيات، مما يستدعي تدخل جميع الجهات المعنية والأحزاب السياسية وغيرها من أجل التصدي لهذه المعضلة المقلقة والمؤرقة…
رحم الله الفقيدة عائشة الشنا التي فضلا عما نالته من جوائز وطنية ودولية نظير كفاحها المتواصل، كانت أهمها الميدالية الشرفية لمؤسسة محمد الخامس للتضامن، التي تسلمتها من يدي العاهل المغربي محمد السادس الكريمتين، الذي تكفل بمصاريف علاجها عند إصابتها بسرطان الدم سنة 2006، فإنها ملكت قلوب المغاربة بفعل شهامتها ونبل أخلاقها وإيمانها الراسخ بحقوق المرأة…
اسماعيل الحلوتي