الغبزوري السكناوي.
تابعت، كما تابع غيري، “الجدل” الذي صاحب محاضرة ياسين العمري بمدينة إمزورن بالحسيمة، وبالخصوص ذلك النقاش الذي عبر من خلاله البعض عن استغربهم الشديد من عدد الحاضرين الذين استقطبهم هذا “الشيخ” أو.” الداعية “، وكيف أصبح انتشار “الفكر السلفي” ظاهرة “مستجدة” بالمنطقة بسبب التراجع الثقافي الذي عرفته خلال السنوات الأخيرة.
عموما هذا الجدل لم يخرج عن حكم الكلام المرسل الذي يطلقه صاحبه من غير تقيد ولا رؤية، وأغلب الذين فعلوا ذلك كان منطلقهم الجهل وعدم الدراية أو الوهم، طيعا إلا من رحم ربي، حيث لم يخرج عن ” إجماع القوم ” إلا طائفة حاولت أن تستل المشرط وتضع الواقعة على طاولة التشريح، وتناقش الظاهرة بهدوء وفي كل أبعادها الدينية، الفكرية والسياسية.
إن “الإستنكار”، الذي جاء على لسان البعض في صيغة السؤال حول متى وكيف تحولت هذه البلدة إلى معقل للسلفية، يفيد أن أصحابه يحملون جهلا مركبا بواقع الحال، ليس فقط لأن الظاهرة لم تكن مستجدة، وإنما لأن الجهل بهذا المعطى السوسيو – ثقافي هو جزء لا يتجزأ من أسباب الفشل الذي صاحب التيارات التي تعتبر نفسها حداثية وهي في الحقيقة غارقة في الماضوية.
طبعا المقام ليس للحديث عن تاريخ الفكر السلفي بالمغرب، وطنيا كان أو علميا، إصلاحيا أو جهاديا، ولا لتناول الكيفية التي توغل بها هذا التيار في المنطقة منذ أواخر السبعينيات، سواء عبر العائدين من أوروبا أو عبر عدد من الخطباء الذين سافروا إلى السعودية في سياق سياسي ديني وفكري لم يعد سرا على أحد.
المثير ليس هو استنكار بعض أدعياء الحداثة لهذه “الواقعة” وإنما الحديث عن الانحطاط الثقافي، وكأن هذه المدينة كانت تعيش “عصر الأنوار”، أو أن الوضع الثقافي والاقتصادي فيها كان شبيها بالذي نشأت فيه الرأسمالية ب “جنوا” و”البندقية”، هذا في الوقت الذي كان فيه “العقل” يفرض طرح السؤال حول أسباب هذا التقهقر.
الجميع ربما يستطيع وصف الحال، ولكن القليل منا يملك جرأة الحديث عن هذه الأسباب، والنفاذ إلى جوهر الظاهرة سياسيا، دينيا وفكريا، لأن السؤال الحقيقي ليس هو كيف تغلغل هذا الفكر بل كيف ولماذا تراجعت التيارات التي تعتبر نفسها حداثية؟! هل يمكن أن نجيب بجرأة وبموضوعية وأيضا بالنزاهة الفكرية؟!، عوض أن يرسل هؤلاء “الحداثيون” خطاب النقد الذاتي ويعترفوا بأخطائهم تراهم يستمرون في نشر الأوهام، ويتناسون مثلا الأسئلة الحقيقية حول إلى أين نتجه كدولة وكمجتمع؟ إلى أين يتجه العمل السياسي؟ إلى أين يتجه التعليم؟ وقبل هذا وذاك هل كانت هذه الأفكار ستجد قبولا في مجتمع متشبع حقا بالحداثة والإنفتاح؟.
الخائض في هذا النقاش لا بد وأن تكون لديه الشجاعة لتوجيه النقد للذات قبل الآخر، فأية حداثة وأي يسار يمكن أن ينفذ إلى المجتمع والمعنيون أجروا طلاقا بين القول والفعل، بل حداثتهم لم تتخطى حانة “أشرقي أو تشافرينا” وحين خرج بعضهم من الضيق إلى أوسع الطريق اتخذ خليلة على الزوجة التي كانت ترابط أمام السجون.
هل تعتقد هذه النماذج أنها ستقود تحديثا في مجتمع سلفيته تعود، بشكل من الأشكال، إلى صاحب ” الفتوحات الإلهية ” السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وهل هؤلاء هم الحداثيون الذين سيواجهون سلفية ب “سند” متصل منذ أواخر القرن 19 مع أبي شعيب الدكالي، محمد بن العربي العلوي، تقي الدين الهلالي فمحمد عبد الرحمان المغراوي.
هل قيادة المجتمع ليتجاوب مع المقولات المركزية للفكر الحداثي ستتم عبر هؤلاء “الحالمين” الذين ظلوا بدورهم عاجزين نفسيا، منهجيا وعلميا عن الانقطاع عن المخيال التراثي، هل هذه النماذج هي من ستنفذ إلى سويداء المجتمع وتقنع المواطن البسيط بالفكر الحداثي وهي التي لا تأبه يوما لوضعه الاجتماعي، لاقتصادي.
صراحة لا أدري أي “عقل” يشتغل به هؤلاء “الحداثيون” الذين هيجهم استقطاب شيخ لثلاثة ٱلاف شخص لحضور محاضرة ولم يثرهم معاناة الساكنة مع المستشفى، الطرق، البنيات التحتية، المدرسة… أو ما يكابدونه من أجل الحصول على سكن لائق وعيش كريم في مغرب تقوده حكومة “المونديال” وتستعد له بأي شكل من الأشكال.
أستغرب كيف أَنْكَرَ هؤلاء “الحداثيون” على الشيخ سلوك “تمخزنيت” وجهلوا أن تقاطع السلفيين مع الدولة هو مسار تاريخي يمتد لقرون، بل من سلاطين هذه الدولة من كان عالما سلفيا، ليس هذا فقط، بل هؤلاء “الحداثيون” تناسوا أنفسهم يوم اِسْتَحْلَوا المقام في حضن المخزن، ومن أجل ذلك دمروا العمل السياسي والجمعوي.
من يستمع إلى هذه الردود سيعتقد أن قائلها قاب قوسين أو أدنى من قيادة ثورة شاملة، خاصة ومنهم من أعلن انه بصدد البحث عن استراتيجية للرد على انتشار الفكر السلفي بالمنطقة، وهو في الحقيقة لا يستطيع حتى تثبيت السروال على خاصرته كأقرانه. بالأحرى إحداث نقلة في مشهد يؤثثه الخطاب والسلوك التقليدي في كل شيء.
للأسف هناك اليوم من يعتقد أن مواجهة هذا الفكر ستكون عبر saging bat، نعم يعتقدون أنه عبر هذا النموذج يمكن أن نربط الاتصال بالمستقبل، ولا يدركون أن الحداثة ورش يستوجب الانفتاح الحقيقي على المجتمع والمواطن البسيط وليس عن طريق الاستعلاء والسخرية من جهل وأمية الناس أو الاستمرار في ردود أفعال انفعالية ليس إلا…