منذ فجر الاستقلال والمغرب لا يألو جهدا في محاولة النهوض بالمنظومة التعليمية، باعتبارها القاطرة الأساسية للتنمية، والركيزة التي تبني عليها الأمم تقدمها. حيث شهدت بلادنا سلسلة من عمليات الإصلاح الرامية إلى تحسين جودة التعليم والارتقاء بمستوى المتعلمين دون جدوى، ومنها المخطط الاستعجالي (2009/2012) الذي تم فيه الاعتماد على بيداغوجيا الكفايات ومحاربة الهدر المدرسي، الرؤية الاستراتيجية (2015/2030) الهادفة إلى إصلاح جذري من خلال الإنصاف وتكافؤ الفرص والجودة، القانون الإطار 17.51 (2019) الذي يراد من خلاله تحديد الإطار القانوني للإصلاح الشامل.
وفي إطار استمرار جهود إصلاح قطاع التعليم وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، تم تنزيل خارطة الطريق (2022/2026) قصد خلق مدرسة عمومية ذات جودة للجميع بلا تمييز والرفع من مستوى التعلمات الأساس للتلميذ وتعزيز التفتح.وهي الخارطة التي يندرج ضمنها مشروع “مدارس الريادة”، الذي يعد مبادرة تربوية متميزة تسعى إلى تحسين جودة التعليم العمومي، من حيث تقوية مهارات التلاميذ في القراءة والكتابة والحساب، فضلا عن تقليص الفوارق التعليمية، عبر دعم المتعثرين منهم ومكافحة الهدر المدرسي. والعمل في ذات الوقت على تطوير مهارات الأساتذة بواسطة التكوين المستمر، وتوفير الشروط التربوية والبيئة التعليمية المحفزة على مستوى تجهيز المدارس بالتكنولوجيا الحديثة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، سبق لها الإعلان عن الشروع في تفعيل مشروع “مدارس الريادة” خلال شهر ماي 2023، على أن يتم تطبيقه ابتداء من الموسم الدراسي 2023/2024بالنسبةل”628″ مدرسة ابتدائية، ثم جرى توسيعه في الموسم الدراسي الموالي 2024/2025 ليشمل2000مدرسة ابتدائية إضافية،يستفيد منه مليون و300 ألف تلميذ، إلى حين تعميه في سنة2027 على 8630 مدرسة ابتدائية، كما انطلق تجريب نموذج “إعداديات الريادة” يهم232 إعدادية، قبل تعميمه على كافة المؤسسات التعليمية العمومية في المستقبل القريب.
فحسب رأي بعض الفاعلين التربويين والخبراء، يسعى النموذج الإصلاحي الجديد “مدارس الريادة” إلى إعطاء مؤسسات التعليم العمومي جرعة زائدة من “المقويات التربوية”، عبر توفير فضاء تعليمي منفتح ومتناغم، إن على مستوى المواكبة الشخصية للمتعلمين والتوجيه التربوي، أو على مستوى اعتماد مشاريع تربوية مبتكرة. ويؤكدون بأن هذا المشروع يركز أساسا على الجوانب التربوية والبيداغوجية، مما سيكون له أثر إيجابي على مستوى التلاميذ. كما أنه يعنى بالمدرس الذي يعتبر من أهم ركائز المنظومة التربوية، وذلك عبر تعزيز قدراته وفق أحدث المقاربات البيداغوجية، فضلا عن أنه سيجعل فضاء المؤسسات التعليمية ذات جاذبية وأكثر تحفيزا على التعلم، لاسيما أنه تم تجهيز معظم “مدارس الريادة” ببنية تحتية متطورة،بتوفير أجهزة العرض والحواسيب وزوايا القراءة، ورقمنة المتابعة والتحكم في البرنامج عبر منصة “مسار”.
ويهدف مشروع “مدارس الريادة” الذي أثار عدة ردود فعل متباينة خلال السنة الدراسية المنصرمة، إلى الارتقاء بجودة التعليم ليس فقط بالنسبة للمتعثرين بل حتى للمتفوقين كذلك، من خلال تحسين مستوى التحصيل الدراسي للتلاميذ في المواد الدراسية الأساسية كاللغة العربية واللغات الأجنبية والرياضيات، وإعدادهم لمواجهة تحديات الحياة وسوق الشغل، والتركيز على استثمار المكتسبات وتطوير المهارات على مستوى التحليل والتفكير النقدي، حل المشكلات، الخلق والابتكار، التواصل الفعال والعمل الجماعي، خلق بيئة تعليمية آمنة ومحفزة على التعلم والإبداع والتفاعل مع الزملاء والأساتذة، إضافة إلى إعداد برامج تدريبية هادفة ومستمرة للأساتذة، تقوم على أحدث استراتيجيات التدريس واستخدام التكنولوجيا الحديثة.
أما فيما يخص المقاربات، فإن “مدارس الريادة” تعتمد على أحسن الطرق والأساليب التربوية ومن بينها التدريس وفق المستوى المناسب “Tarl”، من خلال تحديد مستوى كل تلميذ وتقديم الدعم اللازم حسب مستواه الفعلي، وخاصة في مادتي القراءة والحساب، وهناك كذلك التدريس الناجع عبر تطبيق استراتيجيات تعليمية فعالة لتحسين جودة التعلمات، أو التعليم الصريح لتعزيز الفهم والتحصيل الدراسي لدى المتعلم.
بيد أنه وككل مشروع جديد تم تسجيل بعض النقائص والمؤاخذات على مشروع “مدارس الريادة”، حيث يرى بعض الفاعلين التربويين والمهتمين بالشأن التربوي، أنه إلى جانب عدم عرضه على المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي واللجنة الدائمة لتجديد وملاءمة المناهج والبرامج التي عينت مباشرة بعد الشروع في الاشتغال عليه، لاسيما أن مشروعا بهذا الحجم ينبغي أن يخضع للتشاور والتوافق بين مختلف الأطراف المتدخلة في الحقل التربوي، هناك أيضا تعثرات تهدد نجاحه، بعد أن أثارت قلقا في أوساط الأساتذة والأسر خلال الموسم الدراسي الحالي، لما لها من آثار سلبية مباشرة على جودة الأداء المهني ومردودية التلاميذ.
ذلك أن مجموعة من مدارس الريادة تشكو من نقص في التجهيزات والوسائل التعليمية وأخرى من تأخر في تزويدها بما يلزم من عدة، تشكل الأداة الأساسية لتفعيل المضامين الرقمية، فضلا عن عدم توفير كراسات الدعم في إبانها، مما حال دون انطلاق العملية التعليمية بشكل طبيعي وفي أحسن الظروف، وساهم بالتالي في تعطيل انطلاق خطة الدعم المبرمجة.
وعليه، فإننا ندعو إلى التعجيل بتدارك النقائص والتعثرات الحاصلة ما دمنا في بداية السنة الدراسية، والعمل على توفير كل شروط النجاح للنموذج الإصلاحي الجديد “مدارس الريادة” في احترام تام لأهدافه النبيلة ومبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص وتحفيز الأطر التربوية، وأملنا كبير في أن يكون هذا النموذج متناسقا، وتحرص الوزارة الوصية على السير به إلى الأمام حتى بلوغ غاياته الكبرى.
اسماعيل الحلوتي