التبريس.
بث كاب راديو مساء يوم الجمعة 03 شتنبر 2014 حوارات مسجلة لانطباعات وآراء عدد من المواطنين والمتدخلين ومسؤولين حقوقيين وسياسيين يعلقون على التقسيم الجهوي الذي قدمه وزير الداخلية للهيئات السياسية . وكنت ضمن المشاركين ،كما اصغيت لمختلف المتدخلين والمعلقين على موضوع التقسيم الجهوي ولا سيما جهة الشرق والريف ..وتبين لي ، بعد الاستماع لمختلف المتدخلين ، أننا نعيش في الريف مشكلة في ممارسة السياسة بحيث نخلط بين العاطفة/ الوجدان وبين مجال علمي يتطلب جهدا من التحليل والنقد والتمحيص حتى نصل إلى اتخاذ الموقف المناسب.
وأنا أعود لأكرر ، مرة أخرى ، أن التقسيم كمفهوم نظري ينطوي ،في حد ذاته ،على حمولة سلبية تحمل في طياتها عدة معاني ومدلولات لا تخلو من مفارقة ، فهي تشتق من كلمة فرق ، شتت ، مزق .. مما جعل كل خبراء التقسيم يتفقون على انعدام مقاربة علمية شاملة تؤدي إلى تقسيم يتراضى حوله الجميع . وقد استغل خبراء التقسيم في المغرب هذه المشكلة لتيسير عملية إشهار المقص لتقطيع أوصال المغرب على الخريطة ودونما الحاجة ،ربما ، إلى البحث الميداني والتاريخي والجغرافي والثقافي الذين يؤكدون أنهم قاموا به قبل الاقدام على التقسيم .
وإن إدارة الأمور على مسألة الحدود الجغرافية للجهة وكأنها كل شيء ، ينطوي على خلفية انتخابية محضة، ولو أن اصحابها يحاولون الاحتماء ببعض الخصوصيات التاريخية والجغرافية للريف ويتباكون على تقطيع أوصال جغرافية الريف ، مع العلم أن ما قبل التقسيم هناك مشكلة مضمون الجهة الذي لايصاغ هكذا في مقترحات بل هي لحظة سياسية فارقة في التحول الديمقراطي ، هذا المضمون هو الكفيل بتذليل عقبات التقسيم ،ولأن الجهوية الحالية جاءت ملحقة بنظام الحكم الذاتي المطروح لحل نزاع سياسي في الصحراء و برغبة انفرادية للدولة ، ولم تكن ناجمة عن ضغط سياسي من أي قوة سياسية أو مدنية . في حالة الصحراء وحدها قبلت الدولة بالاستعداد لتوزيع جزء هام من سيادتها لإرضاء الطرف الآخر في النزاع ، ما عدا ذلك فالدولة تسعى فقط إلى تخويل الجهات في المغرب بعض الصلاحيات ،لكن تكيتكيا ، تبقي على زمام السيطرة والتحكم في دواليب المؤسسات اللامركزية ..
فالمضمون السياسي والقانوني للجهة أكثر أهمية من الحدود الجغرافية ، ومع ذلك لا يدور حولها نقاش معمق بين الفرقاء السياسيين ، لأن أغلبية النخب السياسية لا تريد جهوية متقدمة تتمتع بقدر هام من الصلاحيات، لأن ذلك سيساهم في تغذية تربة بروز نخب جهوية من شأنها أن تساهم في تقليل من أهمية النخب المركزية وإضعاف دورها في خريطة المساومات السياسية . فالمحلي بالنسبة لها هو ورقة للضغط على صعيد المركز ليس إلا تستعين به في لحظات الأزمات من أجل قضاء مآرب سياسية على طاولة المفاوضات الضمنية مع الدولة .
ولعل الجميع يتابع ردود الأفعال القوية حول مشروع التقسيم الجهوي الذي أفرز ما يشبه حربا كلامية محلية في مقابل سكوت القيادات المركزية لدرجة يكاد هذا المشهد يتعمم بكل جهات المغرب . وأغلب هؤلاء يدفعهم الهاجس الإنتخابي أو التوجس الانتخابي..ونلاحظ في الريف تحرك قوي لأحد البرلمانيين في مقابل سكوت الآخرين أو تململ البعض منهم في حدود إطلاق بعض الإشارات الشكلية التي توحي أنه ضد تقسيم الريف أو قل إلحاق الريف بالشرق ،وكذا سكوت حزبين هامين في هذه الجهة المقترحة وهما حزب الاستقلال والعدالة والتنمية ..لوعيهما أن هذا المجال يعطي لهما فرصا قوية للظفر بقيادتها نظرا لوجود معاقل لها متقدمة في كل من وجدة والناضور، على خلاف حزب الأصالة والمعاصرة الذي يستمد قوته من الحسيمة غير أنه بعملية رياضية ، نظرا لشساعة الفرق القائم في حجم الكتل الناخبة ، سيفقد مسبقا الكثير من حجمه السياسي ومرشحا لأن يتم إسقاطه من رئاستها بالضربة القاضية .
لكن خبراء التقسيم لهم أهداف أعمق من هذا الحساب الإنتخابي ، يمكن تشخيصه في النقط التالية :
1. إلحاق الريف بالشرق لمنع عودة نزاع سياسي قديم ومحو معالم جغرافية جمهورية الريف التي تتحدد في النقطة الثانية من الميثاق الوطني الذي أقرته الجمعية الوطنية :” جلاء الإسبان عن كل منطقة الريف التي لم تكن واقعة تحت سيطرتها قبل الاتفاق الفرنسي – الاسباني عام 1912 (1)” وتم تدقيق الحدود الجغرافية في المفاوضات التي باشرها محمد بن عبد لكريم مع الوسيط غوردون كانينغ كما يلي “إن الضفة الشمالية لنهر ورغة ستكون الحد الجنوبي لدولة الريف . بحيث تصبح كل البلاد الجبلية داخلة في دولة الريف ويعني ذلك منطقة العرائش واصيلا وتطوان . وستحتفظ إسبانيا بسبتة ومليلية وبقسم من الأراضي الضرورية لصد أي اعتداء بري أو بحري عنهما “
فسواء كانت هذه الجمهوية مجرد تكتيك حربي لعبد الكريم حتى لا يكرر خطأ عدي وبهي الذي أعلن الحرب باسم السلطان وانتهى إلى تنصيب نفسه سلطانا كما قال عبد الله العروي(2) أم أن جمهوية الريف كانت تعبيرا عن قطع كل صلة مع نظام المخزن كما قال عبد الرحمان اليوسفي في مقاله مؤسسات جمهوية الريف (3).
2. السماح للنخبة الاقتصادية بالشرق للتغلغل في الريف عبر استثماراتها الاقتصادية وكذلك الثقافية لتغيير نمط الحياة العامة واحتواء النخبة الاقتصادية الريفية وربما الإجهاز عليها لكونها على درجة من الضحالة بحيث تفتقد لأسس النخبة الاقتصادية فهي اقرب إلى مجموعة من الأثرياء اغتنوا من المخدرات والمضاربات العقارية والتهريب ، ولا نجد لها أي أثر لاستثمارات فعلية في الميادين الصناعية والتجارية والفلاحية ولا سيما بالحسيمة . مع ما سيرافق ذلك طبعا من تأثير فعلي في البنيات الثقافية القائمة .وستفقد الحسيمة مركز جاذبيتها بالتحول إلى محيط ضعيف في مواجهة مركز قوي لن يؤدي سوى لمزيد من تهميشها رغم ما يحيل عليه مشروع الجهوية من إحداث لصناديق التضامن .
3. تكريس واقع المغرب النافع وغير النافع .
4. تدمير تاريخ ثقافي للريف ، وهذا يسري على جل الجهات المقترحة، فتغييت معالم التاريخ لعدد من المناطق سمة غالبة على التقسيم الجديد بحيث أصبحنا أمام ترمنولوجية تتعمد خلق معطيات جديدة واختلاق أسماء لا علاقة لها بالمناطق الكبرى للمغرب . ففي حالة الشرق والريف كانت اللجنة المكلفة بالجهوية قد اقترحت إسم الريف الشرقي لكن استبعد بسرعة نظرا لما يخلقه من انطباع بوجود ريف أوسط وغربي انسجاما مع طرح الجغرافيين الذين ظلوا لقرون يتشبثون بهذه الهوية التاريخية .
محصلة القول أننا أبعد ما نكون عن مرحلة دولة الجهات الديمقراطية على شاكلة ما هو موجود في تجارب الدول الديمقراطية الغربية التي قطعت أشواطا في بناء دول الجهات المزدهرة .وفي جميع هذه التجارب كانت النخب الاقتصادية هي من تخلق تعبيراتها السياسية والمدنية كلوبيات لفرض الضغط الذي أفضى إلى اقتسام السيادة مع الدول المركزية الموحدة أو الفدرالية ، وطالما لم نشهد بروز هذه الحركة النخبوية الاقتصادية على صعيد الجهات تمتلك تطلعات لاستثمار أموالها في مجال أقل منافسة ، فإن مضمون الجهوية سيظل غير ذي بعد حقيقي في رسم أفق للتحول في المغرب نحو دولة الجهات .
المصدر: علي بلمزيان: حوار الريف dialoguerif
هوامش:
(1) أمين سعيد: الدولة الفيدرالية العربية ،القاهرة 1938 الجزء الثالث ،ص 387 .
(2) أنظر مقال عبد الله العروي المنشور في حوار الريف محور آراء .
(3) مساهمة عبد الرحمان اليوسفي في كتاب الخطابي وجمهورية الريف تحت عنوان مؤسسات جمهورية الريف .