ـ لماذا فشلت كل آليات الوساطة لإنهاض حوار بين الدولة و المحتجين؟
هذا السؤال جوهري بالنظر إلى أن حراك الحسيمة كشف عن ضعف آليات الوساطة و عدم قدرتها على الإسهام في تيسير سبل المفاوضات للخروج من حالة التوتر بين حركة الاحتجاجات من جهة و الدولة من جهة أخرى؛ لذلك كانت النتيجة فشل هذه الوساطات؛ و جوابا على سؤالكم يمكن لي تقديم المستنتجات الآتية :
• نحن أمام حالة جديدة من الاحتجاجات تختلف عن سابقاتها، لأسباب عديدة منها: انبثاق هذا الحراك من الشارع العام بشكل عفوي بعد اندلاع شرارته على خلفية مقتل بائع السمك المرحوم “محسن فكري”؛ حيث لا يقف وراءه ناظم تقليدي (حزب سياسي ـ منظمة نقابية ـ حركة سياسية أو جمعوية …) أو معبر يشتغل وفق القواعد المعروفة مؤسساتيا؛ و هو ما أكدته قيادات الحراك من خلال استبعادها المطلق لكل التعبيرات السياسية و جمعيات الإيداع القانوني كما جاء على لسان قائد الحراك في إحدى الكلمات التي يلقيها أمام المحتجين. و بالتالي استشعرت هذه المكونات أنها أمام حالة اجتماعية جديدة تقتضي التريث و الانتظار السلبي.
• من المعلوم أنه يشترط في الوساطات أن تتميز بخاصية الاستقلال و الحياد عن طرفي النزاع حتى تتمكن من كسب ثقة الأطراف المتنازعة؛ قبل تقديمها لعرض الوساطة؛ و الحالة هذه؛ فإن الحراك الاحتجاجي ظل طوال سبعة أشهر ينظر إلى الوساطات باعتبارها فاقدة لهذا الشرط ، فهي إما أحزابا سياسية يعتبرها خرجت من رحم المخزن أو ارتمت في أحضانه و غاية وجودها الاسترزاق على هموم و قضايا المواطنين ، لذلك سماها بالدكاكين السياسية، و أن هذه الأخيرة تشكل جزء من الأزمة فكيف لها أن تسهم في خلق مناخ المفاوضات أو الحوار. و بالتالي أمكننا الحديث هنا عن غياب الثقة لاختلال شرط الحياد.
و نفس الأمر ينطبق على المؤسسات الاستشارية مثل (المجلس الوطني لحقوق الإنسان) الذي تنص مادته التاسعة من الظهير المحدث على اختصاص الوساطة و المساعي التوفيقية؛ حيث إن بعض قيادات الحراك تنظر إلى هذه المؤسسة على أنها تفتقد لصفة الاستقلالية و الحياد قانونيا و عمليا رغم أنه قائم على مبادئ باريس المعروفة (الاستقلالية ـ الحياد ـ الفعالية ـ التعددية … و مبادئ تكميلية أخرى)؛ و ترسخ نسبيا هذا الموقف من المجلس في كيفية تعاطيه مع قضية ما يعرف بشهداء 20 فبراير الذين وجدوا محترقين بإحدى الوكالات البنيكية، و تغييبه للتقرير الحقوقي عن أحداث هذه المرحلة من تاريخ إقليم الحسيمة. أما بخصوص اللجنة الجهوية الحسيمة / الناظور التي أعلنت في بلاغ لها يوم 18 ماي 2017 عن استعدادها للوساطة بين الأطراف؛ فبقدر ما استحسنها الكثير نظرا للقيمة التواصلية التي دأبت هذه اللجنة على السير بها في أشغالها الاعتيادية، إلا أنها جاءت في وقت متأخر اتسم بتوتر بالغ و في فترة تحدي بين الحراك و الأغلبية الحكومية التي اتهمت شباب الحراك بالعمالة و الدعوة للانفصال و تلقي دعم خارجي.
أما مؤسسة وسيط المملكة فهي غائبة تمام الغياب عن ما يحدث من توتر بالإقليم و ليس لها مكتبا إقليميا بالمنطقة، رغم ما تتيحه من امكانية المبادرات التلقائية للحؤول دون تطور النزاعات؛ خاصة أن مؤسسات إدارية عدة كانت موضع نقد شديد من شباب الحراك الذين هم في الأصل مرتفقين لديها؛ و قد كانت هناك إمكانية التنسيق مع اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان لبحث سبل تخفيف التوتر بعيدا عن منطق الاختصاص النوعي نظرا لحساسية الوضع.
• غياب التمكين بالنسبة لجمعيات المجتمع المدني المعروفة بالجدية، حيث لم تفلح في إنجاح وساطاتها إما لضعف كفاءاتها في هذا التخصص، و إما لسيادة جو عدم التفاهم مع بعض قيادات الحراك التي اتسمت بنوع من التشدد إزاءها.
• تراجع دور المثقف العضوي، حيث ارتكنت أغلب الفعاليات الفكرية و الثقافية إلى زاويا بعيدة عن مربع الأحداث، و تكتفي في الغالب بتدوينات يتيمة على الجدران الافتراضية؛ مع استثناءات لا تأثير لها في مجريات الاحتجاجات.
2ـ ما هي في نظرك الخصوصيات أو المقومات التي يتفرد بها الريف و التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار من طرف أي مبادرة سواء من الدولة أو المجتمع المدني؟
من بين أهم الخصوصيات التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في كل مبادرة من أجل الريف؛ هو أن هذا الأخير يمثل جهة تاريخية من جهات المغرب التي امتلأت صفحات تاريخه بمظالم عديدة؛ من جملتها:
1ـ تعرضه لقصف جوي بالأسلحة الكيماوية من طرف القوى الكولونيالية المعروفة (إسبانيا و فرنسا/ و بمساعدة دول أخرى) دون أن يجد سندا للدفاع عنه من أجل جبر الضرر خاصة لدى المحافل الدولية، و أقصد بالسند هنا من يزايد على أهل الريف في الوطنية من ممثلي الأحزاب السياسية و حكوماتها المتعاقبة.
2ـ عدم فتح تحقيق جدي في تاريخ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة التي اشتغلت عليها هيئة الإنصاف و المصالحة، مما يعني ضمنيا أن المصالحة مع الريف لازالت معلقة على شرط الإرادة السياسية للدولة؛ الشيء الذي يفهم منه على أن البيئة الحقوقية في الريف لازالت مفتوحة على جراحات لا تندمل؛ خاصة مع تكرار الانتهاكات بسبب غياب تدابير و ضمانات عدم التكرار.
إضافة إلى خصوصية الهوية الثقافية المحلية للمنطقة التي تعد أحد روافد الغنى الثقافي في بلدنا؛ حيث نجد أن السياسات العمومية لم تنصف ثقافة و هوية هذه المنطقة؛ إذ لازلنا نصنف في عبارة (الريافة) بما تحمله من خلفيات انطباعية لدى العقل الجمعي لجزء كبير من المغاربة خاصة من المسؤولين القائمين على تنفيذ القانون. لذلك لابد من إعادة الاعتبار للموروث الثقافي و المجالي و البيئي لهذا الجزء من الوطن لتيسير سبل خلق طريق جديد للوحدة يربط بين المكونات الثقافية و الهوياتية للمغرب.
3ـ المداخل و الإمكانات التي يمكن أن تحل هذه الأزمة؟
من وجهة نظري؛ هناك أربعة مداخل أساسية:
1ـ إطلاق سراح جميع المعتقلين الأبرياء وفق السبل التي تكفلها روح قواعد القانون مسطرية كانت أم دستورية، و هي كثيرة؛ و إسقاط المتابعات القضائية، كمرحلة مهمة لخلق أجواء الثقة و ترتيب البيئة الحقوقية التي طالما نادى بها بعض خبراء حقوق الإنسان ؛
2ـ إعادة الاعتبار لوطنية الريفيين من خلال تقديم اعتذار رسمي و علني في وسائل الإعلام الرسمية من طرف جهات الاتهام التي خونت شباب الحراك و ألصقت بهم تهم الانفصال و العمالة مع أعداء الوطن ؛
3ـ وضع جدولة زمنية لترتيب الحوار بين نشطاء الحراك و كل من ساهم في ترتيب أجواء الثقة من مؤسسات و فعاليات المجتمع المستقلة إلى جانب ممثلين عن الدولة يشهد لهم بالنزاهة و الشفافية و الكفاءة يعينهم الملك. و العمل على تنفيذ الملف المطلبي بحسب ما تقتضيه حالات الاستعجال و إكراهات الآجال ؛
4ـ فتح تحقيق جدي و مسؤول لبحث كل الأسباب و العوامل التي أدت إلى هذا المأزق الذي أعاد بلادنا إلى درجات دنيا في مجال حقوق الإنسان، و تقديم كل مسؤول عن ذلك إلى العدالة تطبيقا لقاعدة إقران المسؤولية بالمحاسبة.
عن جريدة المساء