قوانين وعقليات للتضييق وسلطات القضاة ينبغي أن تتحرر من تأثيرات الرأي العام
القانون الجنائي لا ينظم حقوق الضحايا، بل المغزى منه الهجوم على الحريات، ولهذا يمكن للسلطة التنفيذية أن تتدخل في ذلك من خلال تعديل النصوص الجنائية، فالقاضي الجنائي لم يفهم أن عمله يجب أن يكون ضد الدولة وما تسعى إليه عبر ترسانتها القانونية، ثم إن الأحكام لا ينالها المتهمون من خلال رضى أعين الناس والرأي العام، إذ لا يجوز أن يخضع القاضي للتأثيرات الخارجية… جانب من مناقشات دارت حول الحريات الفردية والقانون الجنائي، وتجاذباتهما على مستوى التطبيق والتأثيرات الخارجية، في ندوة احتضنتها قاعة الندوات بمقر “إيكوميديا”، شارك فيها محمد الباكير، الأستاذ الجامعي والمحامي، إلى جانب مراد فوزي، المحامي بهيأة البيضاء، ورئيس جمعية حقوق وعدالة…..
إعداد: المصطفى صفر ونورا الفواري وعبد الحليم لعريبي ومصطفى لطفي/ تصوير: (أحمد جرفي )
الاعتقال الاحتياطي مس بأمن المواطنين
< ماذا يمكنكم أن تقولوا عن الاعتقال الاحتياطي الذي تجيزه النيابة العامة في حق المتهمين رغم توفرهم على جميع الضمانات الأساسية. ألا يشكل بالنسبة إليكم نوعا من التهديد للأمن القضائي؟
< الاعتقال الاحتياطي يمس بأمن المواطنين أولا وقبل كل شيء. الأمن القضائي يقصد به تأمين المواطن نفسه، في حين أن بعض القضاة يفهمون على أنه تأمين على أنفسهم. إن الطريقة التي يتم بها تدبير الاعتقال الاحتياطي في كل دولة هي مؤشر على ميزان الحقوق والحريات. فإذا كان عدد الاعتقالات الاحتياطية مرتفعا، فذلك يعني أن الدولة تمارس تعسفا في حق المواطنين، أما إذا كان الرقم منخفضا، فذلك دليل على أن الدولة تؤمن بحريات الإنسان. كيف يعقل أن يتم اعتقال المتهم لمدة سنة كاملة لضرورة التحقيق، ويتم استقدامه مرة أو اثنتين فقط من أجل استنطاقه؟ أين هي قرينة البراءة؟ صحيح أننا في مجتمع يؤمن بأن العقوبة والحبس هما الحل، لكن ذلك لا يعني أن لا نلجأ إلى الترشيد. لسنا مجتمعا متشبعا بثقافة حقوقية. الأساسي عندنا هو كيف يمكنني أن أعتقلك وليس كيف يمكنني أن أتعامل معك لتطبيق العدالة بطريقة سليمة. هذا هو الإشكال.
العفو الملكي … إصلاح خلل
< كيف يمكن تفسير تدخل الملك، “القاضي الأول”، بعفو ملكي في بعض القضايا التي تمس الحريات الفردية (الصحافية هجار الريسوني نموذجا)؟ هل يمكن فهم المبادرة الملكية على أنها تشجيع للاجتهاد؟ هل هو نوع من الخلل في تطبيق بعض القوانين التي لم تعد صالحة لمغرب 2021؟
< أولا، المؤسسة الملكية مؤسسة مختلفة بصلاحيات مختلفة، وهي من الناحية السياسية على رأس المؤسسات، لكن الملك ليس القاضي الأول في المملكة وليس المشرع الأول، وهو نفسه لم يدع يوما هذه الصفة، بل تستعمل مجازا من قبل وسائل الإعلام. ثم، من الناحية الرمزية، لم يكن الملك ليتدخل في قضية هاجر الريسوني بعفو ملكي، لولا أنه تبين وجود خلل في معالجة هذا الملف. لم يكن عفوه تعاطفا مع هجار، وإلا لكان تدخل في العديد من القضايا المشابهة. لا شك، أن الملك، مدرك للاختلالات الموجودة على مستوى القانون والقضاء. والمؤسسة الملكية، في اعتقادي، لديها العديد من المعطيات بهذا الخصوص. تدخل جلالته جاء لإصلاح خلل كانت ستذهب ضحيته امرأة، من جهة، ومن جهة أخرى، حرصا على أن لا يتم انتقاد المغرب على مستوى الحقوق والحريات، لأن مشروعية الدولة قائمة على مدى حمايتها لهذه الحقوق والحريات. هل العفو الملكي تدخل في العمل القضائي؟ تلك قصة أخرى ونقاش آخر، علما أن جميع الملوك ورؤساء الدول لديهم هذا الحق. توظيف العفو الملكي لديه العديد من الغايات، إذ هناك الجانب البراغماتي، من أجل تخفيف الضغط عن السجون، ثم الجانب السياسي، مثلما وقع في قضية العفو عن معتقلي الإرهاب، إضافة إلى الجانب الإنساني، حين يتعلق الأمر بأشخاص مرضى أو عجزة لم تعد لديهم القدرة من أجل تحمل السجن، كما أنه تصحيح للمسار القضائي.
هل القانون الجنائي يحمي الحريات؟
القضاء الذي ننتظر منه أن ينتصر إلى الحقوق والحريات وأهمها حرية التعبير، نجده لا يقبل الانتقادات التي توجه إليه بل ويصبح من أبدى الرأي في هذا الباب مسيئا إلى المؤسسات.
وهذا يجرنا إلى السؤال المحوري، هل القانون الجنائي يحمي الحريات الفردية أو لا يحميها؟ وهل باب الاجهتاد مفتوح؟ وسنعطي مثلا بجريمتي الفساد، والاتجار في البشر.
فجريمة الفساد ينص عليها القانون ويعاقب عليها، فالمؤسسات التي تعمل إلى جانب القضاء يمكن أن تنجز إقرارات أو أرواقا تضم تصريحات وتضعها أمام القاضي باعتبارها بيانات اعتراف، وقد يكون هذا الاعتراف انتزع بالإكراه، هنا إذا أردنا التحدث بالمعنى الحقوقي، هل لديك الحق لفرض الاعتراف ثم تطبيق العقوبة؟ بمعنى أن القاضي هنا ينبغي أن يستقرئ كيف تم تهييء الحجة، فلو انتصر للحقوق والحريات، فسيكون في غنى عن الاعتماد عن الأوراق والتصريحات.
تجاوزات في الخيانة الزوجية
< جريمة الخيانة الزوجية تشترط وجود شكاية سابقة، إلا أنه في معظم الحالات تكون الشكاية لاحقة ويتم البحث في الهاتف وغير ذلك لإيجاد الأدلة قصد تثبيت الاتهام؟
< الضابطة القضائية في الكثير من الأحيان تعتمد هذا الأسلوب، رغم أن المشرع كان واضحا واشترط عدم جواز المتابعة في الخيانة الزوجية، إلا بوجود شكاية، والمتابعة تعني تحريك الدعوى العمومية ولا تعني البحث، فالمشرع عندما اشترط عدم جواز المتابعة إلا بوجود شكاية، لم يقصد إثارة الدعوى العمومية بمعنى الإحالة على الجلسة، بل قصد التصرفات منذ بداية تحرك الشرطة القضائية، لأن عملها لم يكن جائزا إلا تحت غطاء النيابة العامة.
كلما طرح سؤال تعديلات القانون الجنائي ونصيب الحريات الفردية منها، أرى من الضروري أن نذكر أن القانون الجنائي هو بطبيعته يهاجم حريات الأشخاص، لأن الجريمة هي أفعال يمنع على الأشخاص أن يقترفوها، وأن من وضع القانون الجنائي هي السلطة التشريعية، التي تعد من أجهزة الدولة وبالتالي فالقانون الجنائي تعبير الدولة عما تعتبره أنه من الملائم أن يمنع الأفراد القيام من الإتيان به.
فالأصل في القانون الجنائي، أنه الحد الفاصل بين ما هو مباح للأفراد وما هو ممنوع عليهم، والحديث عن أن القانون الجنائي يمنع الحريات نستشفه في تعريف القانون لنفسه، ولا ينبغي أن نتعجب إذا قال أحدهم إن القانون الجنائي يقيد الحريات.
الآن، يبقى ميزان التقييم، هل يكون تقييما بالمطلق، أي أن الدولة ترى من اللازم تقييد أنواع من الحريات أو العكس، لأن هناك أنواعا من الأفعال تجرم، وموضوع التجريم فيها أساسا هو تقييد حريات الأفراد، بالطبع نجد لذلك مبررات، مثلا تقييد حرية الصحافة، نجد مبررات أن حرية الصحافة والتعبير مضمونة، لكن لا يجب المساس بحقوق الأشخاص وحياتهم الخاصة.
هذه التعديلات التي أدخلت على القانون الجنائي الصادر في 1962، إلى حدود اليوم هل كانت الغاية منها التوسيع من دائرة التقييد أو العكس، لأنه كلما أضفنا جرائم، فنحن بالضرورة نوسع من دائرة الممنوع، إذن نحن بالضرورة في تقييد متزايد للحريات، ما دفع باحثين في القانون الجنائي للحديث عن تضخم التشريع الجنائي، لأنه في نهاية المطاف كلما نوسع دائرة تجريم، نحن نوسع بالضرورة دائرة قيود، وبالتبعية، كلما ضيقنا على الأشخاص في حرياتهم نوسع تسلط الدولة.
والقانون الجنائي هو الحد بين الدولة والفرد، لا يجوز للدولة التدخل في حريات الأفراد، إلا دعتها إلى ذلك أفعال اقترفت تصنف جرائم، أي تتدخل عبر القانون الجنائي.
هذه التعديلات حسب رأيي الشخصي تفيد أن المشرع المغربي، قد استمر في إحداث نصوص جنائية بشكل مستمر، إذ كلما أراد أن ينظم مجالا معينا، خصص في جميع النصوص التشريعية أبوابا لعقوبات وتدابير زجرية، كأنه لا يرى من آلية لضبط سلوك المجتمع إلا القانون الجنائي.
السلطة التقديرية والاجتهاد
علماء الدين يتحدثون عن عدم جواز التوسع في النصوص الشرعية، وهو القياس نفسه عن النصوص الوضعية، وبناء على قواعد ونصوص قانونية لا يمكن الاجتهاد فيها إلا بإحلال باب الاتفاقيات الموقع عليها من قبل المغرب في مجال حقوق الإنسان، وهذا ما نلاحظه في الكثير من الحالات التي تتعلق بالسلطة التقديرية للقضاة، التي أوكلها المشرع في القانون الجنائي في أغلب القضايا الزجرية والجنائية المعروضة عليهم. كما يطرح إشكال الضمانات التي تقيد القاضي في إعمال السلطة التقديرية ضدا على الحقوق والحريات، وحتى يمكن إحقاق التوازن بين هذه السلطة وحماية الحقوق يجب أن يكون فيها نقاش، وأنا أتفق على أن هناك قواعد “آمرة” لا تجوز مخالفتها، ولكنه من اللازم أن تتطور المنشورات الصادرة عن وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة من أجل التطبيق السليم لهذه الدوريات حماية للحقوق والحريات.
الباكير: القاضي لا ينبغي أن يخضع للتأثيرات
< هناك تضارب في الأحكام القضائية فقضاة مازالوا يراعون “أعرافا” في التشديد في الاعتقال والأحكام من خلال التفرقة بين مناطق محافظة وأخرى غير محافظة أثناء معالجة قضايا الحريات، ألا يمس ذلك بالأمن القضائي، في الوقت الذي جعلت فيه الأنترنيت العالم قرية صغيرة؟
< هذا يثير العديد من الإشكالات ويطرح مبدأ المساواة بين المواطنين في القانون، وهذا المبدأ يشترط إذا توبع أشخاص بالتهم نفسهايجب أن يخضعوا للأحكام نفسها. وما يحدث تدخل فيه اعتبارات أخرى ضمنها شخصية القاضي، وهنا يمكن أن نتحدث عن الاستقلال، كما أن دولا في العالم حريصة على أن يكون القضاة متفقين وجدانيا في تقديرهم للأحكام القضائية، ويجب أن نفرق بين مفهوم الاستقلالية والحياد، والمفهوم الأخير يجب أن يكون فيه القاضي مستقلا حتى عن قناعته الشخصية. ولا يوجد أساس قانوني مقنع يجيز للقاضي التفرقة في الأحكام بين سكان مناطق محافظة من خلال تشديد العقوبة السالبة للحرية، وأخرى ليبرالية من خلال تخفيفها، أثناء البت في قضايا الحريات. ولا يجب على القاضي أن يحكم على المتهم من خلال ردود أفعال الرأي العام، كما يجب أن نعترف أن النيابة العامة يباح لها التحيز.
< ماهو اقتراحكم للخروج من هذه الاعتبارات “البالية”؟
< يجب على القاضي أن يكون نزيها، وألا يخضع للتأثيرات الخارجية، وتطور ما يسمى بحقوق الضحايا أدى إلى بروز هذه المواقف، وسارت من المعتبرات لقضاة الحكم، والقانون الجنائي لا ينظم حقوق الضحايا، بل المغزى منه هو الهجوم على الحريات، ولهذا يمكن للسلطة التنفيذية أن تتدخل في ذلك من خلال تعديل النصوص الجنائية، فالقاضي الجنائي المغربي لم يفهم أن عمله يجب أن يكون ضد الدولة، وأن الحكم لا يناله المتهم من خلال رضى أعين الناس، ولذلك فالتفاوت الحاصل في تطبيق الأحكام لا يجوز أن يخضع للتأثيرات الخارجية، ولا مصلحة للضحية والمجتمع والمحيط في تشديد العقوبة. والمصلحة هي أن يقوم القضاء بالرمزية المعروفة عليه، وإذا تحول القانون الجنائي لأداة في يد الضحايا أو المجتمع، لم يعد قانونا بل تعسفا، والقانون يظل “سياسيا” من خلال حل المشكل بين الدولة والأفراد، وهو خط للتوازن، وبالمعنى الإداري والتنفيذي فالدولة تبقى دائما متهمة بمنطق القانون، وهي التي تملك جميع الصلاحيات من خلال القوة التنفيذية وصاحبة قدرة على التحكم.
< هل الاجتهاد بعيد المنال؟
< لابد من التمييز بين القانون الجنائي المسطري والقانون الوضعي، وباب الاجتهاد الوضعي يبقى ضيقا، لكنه غير مسدود، وهو ما يلزم القاضي بالقراءة والكتابة وتتبع الواقع، فلا يعقل أن قاضيا عمره 26 سنة، درس الحقوق ثلاث سنوات وبعدها تكون في المساطر سنتين، أن يكون متشبعا وعالما بمشاكل ومآسي الناس، وهنا يصعب أن نسير على طريق الديمقراطية فنمارس تعسفات وننتج مخلفات إنسانية واقتصادية واجتماعية، وبالتالي يصعب على هذا القاضي غير المتشبع الفصل والحسم في قضايا أساسية.
< وماذا عن الاجتهاد في القانون المسطري؟
< القانون الجنائي المسطري كله اجتهاد، وهو الذي نحتاج فيه إلى ضمير القاضي، ولتقريبكم أكثر فإنني صدمت قبل شهور بعد اعتقال شخص بسبب شيك قدره 800 درهم بالمحمدية، وهنا يطرح إشكال تدبير الاعتقال الاحتياطي، ف45 في المائة من سكان السجون حاليا معتقلون احتياطيا، فكيف نتحدث عن الحريات وفي الوقت نفسه نتحدث عن “خطورة الأفعال”. ولهذا يجب أن نكون متشبعين بأن الاعتقال يتسبب في الكثير من الحالات من حرمان حقوق الضحايا، فمثلا اعتقال حامل شيك يمكن متابعته في حالة سراح والمساهمة في استرجاع حق المشتكي، وهناك قضاة للنيابة العامة لا يعتبرون أن الاعتقال الاحتياطي يشكل ضررا للمعتقل، إذ كونوا قناعة بأنه سيدان، وستخصم مدة الاعتقال الاحيتاطي من مدة حبسه، وهذا ضرب لقرينة البراءة المدسترة.