لو أن عزيز أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار ذي رمز “الحمامة الزرقاء”، كان يعلم من قبل ما يمكن لخفة لسانه أن تجلب عليه من انتقادات لاذعة وتثيره من ردود أفعال واسعة في منصات التواصل الاجتماعي ومختلف وسائل الإعلام داخل المغرب وخارجه، ما كان ليطلق الكلام على عواهنه ولحرص على مراقبة كلماته، خلال افتتاح مؤتمر مغاربة العالم بإيطاليا، الذي احتضنته مدينة ميلانو يوم السبت 7 دجنبر 2019.
ذلك أن صاحب شعار “أغراس أغراس” الذي يراهن على أن يتصدر حزبه نتائج الانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها عام 2021، ويسابق الزمان من أجل الظفر برئاسة الحكومة القادمة، أبى في لحظة انتشاء مفرط واندفاع كبير إلا أن يؤكد على أن حزبه لا يألو جهدا في تشجيع الشباب على الانخراط في السياسة، داعيا مغاربة إيطاليا إلى المساهمة في بناء النموذج التنموي وعدم ترك المكان للظلاميين، مشددا على أنه لا مكان في المغرب للذين يسبونه ويمسون بثوابته ويسعون إلى الهدم وتقويض الجهود، وزاد بأن توعدهم ب”إعادة التربية” على اعتبار أن محاربة مثل هذه السلوكات الرعناء ليست من مسؤولية المحاكم وحدها، بل هي واجب وطني يهم جميع المغاربة، حيث قال في معرض كلمته إن: “من ينقصه الترابي يجب علينا إعادة تربيته”…
وهي العبارات التي استفزت المغاربة، وأثارت موجة عارمة من الاستنكار والتنديد، عكستها مجموعة من التعاليق على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث هناك من اعتبرها إهانة في حق شعب أبي، استرخص الشرفاء من أبنائه أرواحهم فداء للوطن وقدموا تضحيات جساما في سبيل انعتاقه من ربقة الاستعمار الغاشم. وهناك من رأى فيها هجوما سافرا على مشاعرهم وتهديدا خطيرا لهم، لا يجوز السكوت عنه ما لم يعد أخنوش إلى جادة الصواب ويعتذر عما بدر منه. وهناك من دعا إلى إحياء “مقاطعة” منتوجات شركاته وشركات زوجته. كما طالب آخرون بإعفائه فورا من مهامه، لاسيما أنه صار أكثر غرورا بنفسه، وإلا ما كان له أن ينتفض ضد المجلس الأعلى للحسابات الذي كشفت تقاريره عن تجاوزاته، المتمثلة أساسا في عدم إخضاع المواد الغذائية الرائجة داخل المغرب للمراقبة على غرار تلك المصدرة إلى الخارج، ناهيكم عما تعرفه مجازر اللحوم من قذارة وإهمال ضريبي في مجال الصيد البحري، وتآمره مع شركات المحروقات على تحديد سعر البيع وفق مزاجه دون احترام قانون المنافسة ولا مبال بالقدرة الشرائية للمستهلك. وهناك من أشفق لحاله معتبرا أن استعجاله بلوغ رئاسة الحكومة، أفقده القدرة على التمييز وتقدير العواقب، وأن ما صرح به لا يعدو أن يكون زلة لسان عابرة لا ترقى إلى مستوى الاستبداد والسلطوية والحنين إلى سنوات الجمر والرصاص، كما ذهب إلى ذلك بعضهم.
فالمغاربة ضاقوا ذرعا بعبث النخب السياسية ولم يعد بوسعهم تحمل المزيد من الاعتداء ليس فقط على قدرتهم الشرائية وضرب مكتسباتهم وإجهاض أحلامهم، بل والحط كذلك من كرامتهم وتدمير معنوياتهم. إذ كيف لوزير يتحمل مسؤولية أحد أهم وأكبر القطاعات الحيوية منذ سنة 2007، أن يجيز لنفسه بهكذا تصريحات مستفزة، وهو يعرف أكثر من غيره أن بلادنا تعيش على صفيح ساخن من الاحتجاجات ضد الأوضاع المزرية في سائر المجالات… وارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة واتساع دائرة الفوارق الاجتماعية والمجالية والتهميش والإقصاء والظلم واستشراء الفساد؟ ألا يعلم سيادته وهو رئيس حزب سياسي كبير يضم آلاف “المناضلين”، أنه باتهامه جزء من المغاربة بعديمي التربية والإساءة إلى الوطن ومؤسساته، لا يعمل سوى على إذكاء نيران الفتنة بين المواطنين؟
إن معظم المغاربة يتميزون بتربية حسنة وخلق رفيع، يحترمون مؤسساتهم وشعار بلدهم الخالد، ولا يحق لأي كان مهما كبر مركزه وامتلأت خزائنه، المزايدة عليهم في وطنيتهم واحتقارهم والتطاول عليهم بالشتم واستعراض العضلات، وهم الذين رفعوا السلاح في وجه المحتل وطردوه خارج الحدود. فإذا كان هناك من يحتاج حقا إلى المساءلة وإعادة التربية، فهم أولئك المنتخبون وأعضاء الحكومة، الذين لا يشغل بالهم كسابقيهم عدا التهافت على المناصب والمكاسب ولا يكفون عن نهب ثروات البلاد والعباد. فهم أولئك الفاشلون في تدبير الشأن العام، المنفصلون عن هموم الشعب وغير القادرين على تحقيق التنمية وتوفير الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهم الذين أخفقوا في التوزيع العادل للثروة والنهوض بأوضاع الصحة والتعليم والقضاء ومعالجة ملفات الفقر والبطالة، والتواصل مع المواطنين واحترام حقوقهم، ودفعوا بالمواطنين وخاصة الشباب منهم إلى الكفر بالسياسة والعزوف الانتخابي، لانشغالهم فقط بتوزيع الغنائم الريعية والصراعات الحزبية وتصفية الحسابات السياسوية والخطابات الشعبوية….
إن أخنوش شأنه شأن باقي أمناء الأحزاب السياسية في تصريحاتهم الارتجالية وغير المحسوبة العواقب، حيث أنه أخطأ الهدف وأساء التقدير، ولم يعمل سوى على تأجيج نيران الغضب وهو يدعو إلى الاحتكام لقانون الغاب بالتحريض على من اعتبرهم “قليلي الترابي” عوض الانتصار لدولة القانون والمؤسسات. ناسيا أن القائد السياسي لا يصنعه المال ولا النفوذ ولا الدين، وإنما تصنعه قوة شخصيته وقدرته على حسن التدبير وترجمة الأقوال إلى أفعال، والتحلي بالحكمة والصبر وفن الخطابة ومشاركة الجماهير انشغالاتها والسعي إلى محاولة الاستجابة لانتظاراتها…
اسماعيل الحلوتي